كتاب النبوة: اصطفاء وقدوة

نشأت منها أعراض خطيرة في قريش: لا شك أن قريشاً عند النزاع لم تختلف فيما بينها على زعامة آل قصي إذ كانت تسلم بزعامة هذا البيت تسليما، وما كان فيها أحد على مستوى المنافسة، وإنما كان الخلاف على أبناء قصي يكون زعيماً. ولكن الخلاف بعث في قريش حركة سياسية: دبت خفية، ثم حبت خفيفة. ثم سمعت عاملة نشيطة:
لما انقسمت قريش حول أبناء قصي فريقين يختصمان فيهم، كان هذا - ولأول مرة - إشراكاً فعلياً لها في السياسة الداخلية للحكم، وإسهاماً عمليا في اختيار الزعيم، أو الاتفاق عليه. وقد وقف كل بطن منها في السلاح في وجه الآخر يوم ذاك وحمل هذا معه روح الانشقاق والتنافس.. وإذا كان الصلح قد رد السيوف في أغمادها، فإنه لم يرد إلى القلوب صفاءها ورضاها، وأصبح من العسير أن يرضى بطن من البطون، بحظ من الشرف والمكانة أقل من حظ خصومه، فنشطت حركة من التنافس الداخلي بين بطون قريش، ظلت في غلوائها حتى فتح الله على محمد صلى الله عليه وسلم مكة المكرمة، وقد دفع أحقاد قصي وهاشم وإخوته هذا التنافس الاجتماعي قدماً في طرق مأمونة، ففتحوا لقومهم مجالات السعي والكسب الوافر، وعقدوا لهم الاتفاقيات التجارية مع الأمم المجاورة ومهدوا لهم السبل، ونظموا لهم رحلة الشتاء والصيف، فانطلقت قريش من قبيلة تكتسب من التبادل المحلي، إلى بيوتات تجارية يضربون في الآفاق وتنصب في أوعيتهم الأموال. وتفتحت مواهبهم، واتسعت مداركهم وعرفوا الخطأ من المجتمعات. ورفع هذا من قدرهم عند العرب جميعاً، وصرفهم هذا السعي الخارجي عن التنازع والصداع في الداخل. فلم تلق قريش من تسويد أبناء قريش إلا خيراً ولم تنازعهم على ما في أيديهم من أمر البيت، بل أولتهم أمورها، ورضيت عن سياستها فيها، وأجلت قريش بعد قصي رجلين من أحفاده هاشماً، وابنه عبد المطلب، أقرت لهما بالسيادة وأعظمت مكانهما. وأتت على قريش في تطورها الاجتماعي عشرات السنين، تبدلت فيها المنازل الاجتماعية تبدلاً ملحوظاً - كما هو الشأن في التطور الاجتماعي لكل أمة - فاغتنى كثير كانوا فقراء، وافتقر قوم كان أهلوهم ذوي مال. ونبه من كان خاملاً، وتقدم إلى القمة كثيرون لم يكونوا شيئاً مذكوراً. وصارت أكثر بطون قريش أفراس رهان، وقد نزلوا كلهم إلى الحلبة بعد موت عبد المطلب - آخر سيد في قصي قبل الإسلام - ولم يستطع ولده أبو طالب من بعده أن يحتل مكان أبيه (فكانت أمور البيت بينه وبين أخيه العباس) وإن كانت قريش تجل مكانه، وترعى جانبه، وتعلي قدره. فكان أبو طالب سيد بني هاشم وبني عبد مناف. ولم

الصفحة 30