كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: مقدمة)

بالثوار، فعقلت من الأمر يومئذ ما عقلت، ورأيت بعيني رجالا، وسمعت بأذني آراء، ورضيت بقلبي أو سخطت، و أعانتني فطرتي بضرب من التمييز، كان يرُجُّ نفسي رجّا شديدا، وأنا بعد في غضارة الصبا. ولك أكد حتى انطلقت أجوب مجتمعا يفوز بالمتناقضات، ويتشقق بالصراع المُرّ في ميادين مختلفة: من الدين، إلى العلم، إلى الأدب، إلى الفن، إلى السياسة، إلى السنن الموروثة = فخضت محنة زماني، في أول نشأتي، بنفس غضة مجرحة بالتجارب. ومضت بي الأيام، وأثخنتني التجارب، وهلك رجال، ونشأت رجال، فرأيت وسمعت، ورضيت وسخطت، وعلمت من أسرار الصراع ما لم أكن أعلم.
فصار حقا علىَّ واجبا أن لا أتلجلج، أو أُحْجِمَ أو أُجَمْجِمَ أو أُدارِىَ، ما دمتُ قد نصبتُ نفسي للدفاع عن أمتي ما استطعت إلى ذلك سبيلا = وصار حقا عليّ واجبا أن أستخلص تجارب خمسين سنة من عمري، قضيتها قلقا حائرا، أصارع في نفسي آثار عدو خفي شديد النكاية، لم يلفتني عن هول صراعه شي، منذ استحكمت قوتي، واستنارت بصيرتي، ومنذ استطعتُ أن أهتك الستر عن هذا العدو الماكر الخبيث = ثم صار حقا عليّ واجبا أن لا أعرِّج على بُنَيّات الطريق، إلا بعد أن أجعل الطريق الأعظم الذي تشعبت منه، واضحا لا حبا مُستبينا = ثم صار حقا عليَّ واجبا أن لا آلو جُهدا في الكشف عن حقيقة هذا العدو، وعن حقيقة الصراع الذي عانيته وحدي على وجه من الوجوه، والذي عانيته مع أمتي العربية والإسلامية على وجوه أُخر.
وقد سرت في هذه الفصول المتشعبة المعاني سيرة واحدة، فضمنت جميعها بابا أو أبوابا من النظر إلى حقيقة الصراع الذي دار، ولم يزل يدور على أرضنا، وفي عقولنا، وفي ضمير أنفسنا. وأشرت في مواضع كثيرة إلى أن هذا الصراع صراع بين حضارتين مختلفتين في جذورهما أشد اختلاف: حضارة طال عليها الزمن فغفت غفوة آمن مستريح لا يفزعه شئ = وحضارة واتاها الزمن فهبّت يقظة متلفتة جريئة، لا تأمن أحدا ولا تطمئن إليه، فلما بَدَرت بوادر الصراع، قامت "الغافية" تتمطى،

الصفحة 8