كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: مقدمة)

وتطرد الفتور عن أعضائها ومفاصلها، وتمسح النعاس اللذيذ عن وجهها، غافلة لا يفارقها شعورها القديم بالأمن والاطمئنان = أما "اليقظة" فهبت حذرة، تراقبُ، وتتحسّس، وتطوفُ، وتتأهب للسطو على هذه "الغافية"، باغية لا يفارقها شعورها الجديد اللذيذ بالقوة والبطش والضّراوة، وبحب الغلبة وبسط السلطان. وبدأ الصراع جَسَّا بأطراف الأسنة، ودسّا بأسباب التجارة، وشيئا فشيئا، جاءت الجيوش واستفحلت التجارة، وجاء معهما أو سبقهما طوائف "المبشرين". لم يكونوا طائفة من الدعاة إلى الديانة فحسب، بل كانوا طوائف لكل منها صفة ووسْمٌ تمشي به في الناس، تأخذهم من غفلاتهم قبل أن يفيقوا. وأطبقت على رقعة العالم العربي والعالم الإسلامي ضبابة كثيفة، ووطئ عليها تاريخ طويل يسحق القوى وينسفها نسفا .... وكانت قطة طويلة متمادية، تقطر دما وغدرا وخيانة، وترشح مكرا وخبثا وخسة وفظاظة ....
فهذه الفصول التي كتبتها، ترفع اللثام عن شئ من هذه القصة التي تجري أحداثها في أخطر ميدان من ميادين هذا الصراع، وهو ميدان الثقافة والأدب والفكر جميعا. ويزيده خطرا: أن الذين تولوا كبر هذا الصراع، والذين ورثوهم من خلفهم إنما هم رجال منا، من بني جلدتنا، من أنفسنا، ينطقون بلساننا، وينظرون بأعيينا، ويسيرون بيننا آمنين، بميثاق الأخوة في الأرض، أو في الدين، أو في اللغة، أو في الجنس.
ويزيد الأمر بشاعة: أن الذين هم هدف للتدمير والتمزيق والنسف، لا يكادون يتوهمون أن ميدان الثقافة والأدب والفكر هو أخطر ميادين هذه الحرب الخسيسة الدائرة على أرضنا من مشرق الشمس إلى مغربها = و لا أن معارك الثقافة والأدب والفكر متراحبةٌ لا تُحدُّ بحدود = ولا أن أكثرها يأتي موقَّتا توقيتا دقيقا: إما قبيل حركات النهضة والإحياء، وإما معها، وإما في أعقابها = ولا أن الأمر صار أخطر مما كان منذ سبعين سنة = ولا أن هذه المعارك ليست في حقيقتها أدبية أو ثقافية أو فكرية، بل هي معارك سياسية، تتخذ

الصفحة 9