كتاب الفصيحة العجما في الكلام على حديث «أحبب حبيبك هونا ما»

كلٌّ عند سماع مبانيه ورِقَّة معانيه أعيى من بأقل (¬1)، ولا بِدَع في ذلك؛ إذ كان مِن كلام مَنْ أُوتي جوامع الكِلَم واختُصِر له الكلام اختصارًا (¬2)، وجعل الله تعالى القرآن العظيم كتابه، فتحدَّى بأقصر سورة منه مصاقع البُلَغاء؛ حتى أقرُّوا بالعجز عن الِإتيان بمثله جهارًا، وقالوا من دَهَشِهم من معانيه التي لا تعدُّ ولا تحصر: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24].
وجيء إليه بلغة أبيه إسماعيل بعد اندراسها وهدم قواعدها وأساسها؛ فشيَّد بنيانها، وثبَّت أركانها، وأظهر من سعتها ما تضيق عنه صدور الفحول ولا يحيط به إلاَّ مَلَكٌ مقرَّب أو رسول، حتى كان لا
يخاطب أحدًا إلاَّ بلغة قومه من العُربان، وحسبُك في ذلك ما أتى به من غريب اللغة في حديث زبَّان (¬3)؛ لأنه أغرب ما نطق به لسان ووعاه جَنَان.
¬__________
= بل كان يسيل سيلاً. أسلم زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يجتمع به، ثم أقام بدمشق أيام
معاوية. توفي سنة 54 هـ. الأعلام 3/ 79، مجمع الأمثال 1/ 228.
(¬1) هو مثل يُضرب لمن أعياه الكلام، وباقل رجل من ربيعة بلغ من عِيِّه أنه اشترى ظبيًا بأحد عشر درهماً فمر بقوم فقالوا له: بكم اشتريت الظبي؟ فمدَّ يديه ومدّ لسانه يريد أحد عشر فشرد الظبي وكان تحت إبطه. مجمع الأمثال 1/ 447.
والمعنى: أن إيجاز كلامه - صلى الله عليه وسلم - وإعجازه لو سمعه قس بن ساعدة، وسحبان وائل
وهما مضرب المثل في البلاغة والفصاحة لسكتا وعجزا عن الكلام.
(¬2) في هذا إشارة للحديث الصحيح الذي رواه البخاري ح 2977، ومسلم ح 523، عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "بعثتُ بجوامع الكلِم". وما رواه الدارقطني في سننه 4/ 144 عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أعطيتُ جوامع الكلم، واختُصِرَ لي الحديثُ اختصارًا".
(¬3) هو زبَّان بن قِسْوَر الكُلَفي، صحابي مختلف في اسمه واسم أبيه، حديثه عند الدارقطني في "المؤتلف والمختلف" 2/ 1085 - 1086 (طبعة دار الغرب =

الصفحة 32