كتاب إلى الذين يحادون مفاتح الغيب باسم العلم الحديث

لنا بطيب الآخرة الذي لم يظهر بعد؛ لما اشتدت الرغبة الدافعة إلى عمل ما يدخل الجنة، ولو تساوت نار الآخرة بنار الدنيا التي يمكن إطفاؤها أو تجنبها، لما اشتدت الرهبة الدافعة إلى عمل ما يبعد عن النار الأخروية؛ لأن الإنسان تواق دائما إلى معرفة أحسن مما عرف، وخواف من الوقوع في أسوأ مما وقع، والنقليون يقولون: إن الوصف القرآني والنبوي للجنة هو لفتح شهية المؤمن للطاعة فقط، وإن حقيقة جمال الموصوف غيب لا صلة له بصفته الدنيوية؛ لأنه سبحانه بعد أن ذكر هذه الأوصاف المحبوبة لدى عباده قال: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُن} ، والنفس لا تشتهي ما ملكته أو تعودته من قبل، والعين لا يلذ لما ما سبق أن رأته؛ فلا جديد فيما شبع منه يشتهى أو يلذ.
إذا فالآية تشوق إلى شيء لم يكن مثله في الدنيا على الإطلاق، وقوله سبحانه: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} ، فلا تعلم نفس أيّ نفس؛ فهي نكرة عامة أيضا، حيث لم يستثن سبحانه في الآية نفسا واحدة من كل الأنفس التى خلقها، وتأتي كلمة {مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} ، لتؤكد أن ما سيبهجهم وتقر به أعينهم، لابد أن يكون مفاجأة مفرحة أحكم إخفاؤها، وإلا لو استثنينا أنفسا علمت، أو إخفاء ليس كليا، لخولفت الآية لفظا ومعنى {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ} ، وتبعا لعلم البعض وعدم إحكام الإخفاء تكون قد انتفت المسرة ولن تقر الأعين، تم ينتقل النقليون إلى الكلام عن عقاب الآخرة، فيقرؤون علينا أربع آيات، ثم يعلقون عليها تعليق أولى العلم، والآيات هي:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} . . {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} . . {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ} . . {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} .
فعن الآية الأولى سألوا أي بلاء في الدنيا توضع له في دية تقدر بذهب يملأ الأرض؟ إن القتل وهو قمة البلاء في دنيانا - فقاتل النفس كأنما قتل الناس جميعا- ديته مائة جمل، أو عدة آلاف من العملات، مهما كثر عددها فقدرها بضع أواق من الذهب، فكيف بملء الأرض ذهبا؟ لابد أن الداهية في الآخرة فوق التصور، والآيات الثلاث التاليات معناها واحد كرر لنظل معه في عجب لا ينتهي، لأنها لم تتكلم عن ملء الأرض ذهبا فقط، بل ما في الأرض جميعا، كل ما خلق فيها، من إنس وجن وكنوز وحيوان ونبات وجماد، بل ومثل ذلك، والمثلية هنا ليست مثلية الضعف، وإنما المثلية المتكررة مهما بلغت، فما دام لم يقبل الأصل، فلا يقبل المثل وإن تضاعف؛ لغنى الله عن كل ذلك، {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وسوء العذاب تعبير مفزع أخفى كيفه ووضح فزعه، من ضخامة الفداء المقدر بمقادير الأرض وأمثالها، ومن الآن رفض.
ونهاية هذه الآية هو الفصل لما فصلناه، عندما

الصفحة 15