كتاب صحيح المقال في مسألة شد الرحال

2- أَن عَليّ بن الْحُسَيْن وَالْحسن بن الْحسن اعتبرا التَّرَدُّد على الْقَبْر دَاخِلا فِي اتِّخَاذه عيدا نُهِىَ عَنهُ فِي الحَدِيث، وَأَن ذَلِك التَّرَدُّد يتعارض مَعَ مُقْتَضى ذَلِك النَّهْي الصَّادِر عَن الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
3- يدل نهيهما وإنكارهما على من تردد إِلَى الْقَبْر أنّ عمل جُمْهُور الْمُسلمين فِي زمانهما - وخاصة الْعلمَاء - عدم التَّرَدُّد إِلَى الْقَبْر؛ إِذْ لَو كَانَ الْأَمر بِالْعَكْسِ لما استنكر كل وَاحِد مِنْهُمَا تردد من أَتَى إِلَى الْقَبْر، وَلما نَهَاهُ عَن أَمر يَفْعَله سَائِر الْمُسلمين وَلَا يُنكر بَعضهم على بعض، ولاحتج الْمنْهِي بِأَن مَا فعله يَفْعَله سَائِر النَّاس وَلَا يُنكر عَلَيْهِم من قبل الْعلمَاء، علما بِأَن مَا أنكرهُ هَذَانِ الإمامان لم ينفردا بإنكاره بل نقل عَن جُمْهُور عُلَمَاء السّلف وأئمتهم، كَالْإِمَامِ مَالك؛ إِذْ ثَبت عَنهُ أَنه يكره قَول الرجل: زرت قبر النَّبِي أَو سلمت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.. يعْنى عِنْد قَبره.
وَلم يكن مَعْرُوفا عَن أحد من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم أَنهم كَانُوا يَتَرَدَّدُونَ على الْقَبْر، إِلَّا مَا عرف عَن عبد الله بن عمر من أَنه إِذا أَرَادَ سفرا أَو قدم من سفر جَاءَ إِلَى الْقُبُور الثَّلَاثَة بعد مَا يُصَلِّي فِي الْمَسْجِد رَكْعَتَيْنِ؛ فَيَقُول: "السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا خَليفَة رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه"، وَلَا يزِيد على هَذَا؛ فَمَاذَا يَقُول من يزْعم أَن السَّلَام على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أخص خَصَائِص الْمَسْجِد النَّبَوِيّ؟.. وَأَن السَّلَام على رَسُول الله مَا كَانَ يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد.. وماذا يَقُول من يرى وجوب أَو اسْتِحْبَاب أَو إِبَاحَة شدّ الرّحال لزيارة الْقَبْر الشريف، مُعَارضا بذلك نَهْيه عَلَيْهِ السَّلَام، ومحاولا تَأْوِيل ذَلِك النهى، غير ملتفت لعمل السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة وَمن بعدهمْ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة ... بل حاول أَن ينْسب إِلَيْهِم مَا لم يَقُولُوا أَو يَفْعَلُوا.
لَا أعلم لَهُم جَوَابا إِلَّا أَن يدعوا إِحْدَى ثَلَاث دعاوى:
الأولى: أَن يدعوا ضعف الحَدِيث الَّذِي أَفَادَ النَّهْي عَن اتِّخَاذ قَبره عَلَيْهِ السَّلَام عيدا، وَأفَاد أَن لَا فرق فِي السَّلَام عَلَيْهِ - عَلَيْهِ السَّلَام- بَين أَن يكون من قريب بعيد، وَهَذِه الدَّعْوَى لَو لجأوا إِلَيْهَا لقلنا لَهُم: إِن طَرِيقا وَاحِدَة من طرق هَذَا الحَدِيث تساوى طرق حَدِيث "مَا من أحد يسلم عَليّ.." الخ. وَتبقى بَقِيَّة الطّرق لَا مُقَابل لَهَا بِالنِّسْبَةِ لذَلِك الحَدِيث.. علما بِأَن حَدِيث "لَا تَتَّخِذُوا.." قد اسْتدلَّ بِهِ فِي الْمَوْضُوع أَئِمَّة الْإِسْلَام قَدِيما وحديثا كَمَا تقدم، وكما تَجدهُ فِي أَي كتاب تعرض لهَذِهِ الْمَسْأَلَة، والْحَدِيث إِذا ارْتَفع عَن دَرَجَة الضعْف فَهُوَ أولى بِالْقبُولِ من آراء الرِّجَال.
الثَّانِيَة: أَن يتهموا إمامي أهل الْبَيْت -وَغَيرهم مِمَّن اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على عدم جَوَاز التَّرَدُّد على الْقَبْر - بِسوء الْفَهم، وَأَنَّهُمْ نزلُوا الحَدِيث فِي غير منزله، ووضعوه فِي غير مَوْضِعه.
وَالْجَوَاب على هَذِه الدَّعْوَى أَن نقُول: لَا يشك من لَهُ أدنى إِلْمَام بعلوم الشَّرِيعَة وتاريخ الْإِسْلَام أَن السّلف أعلم بنصوص الشَّرِيعَة ومقاصدها وأهدافها من الْخلف مَرَّات متكررة، وخاصة رَاوِي الحَدِيث،

الصفحة 186