كتاب صحيح المقال في مسألة شد الرحال
وَمن شَاهد التطبيق العملي لمقتضاه من جِهَة سلف الْأمة والقرون المفضلة أَحْرَى وأجدر بِمَعْرِِفَة مُرَاد الله وَرَسُوله مِمَّن جَاءَ بعدهمْ، كَيفَ وَفِيمَا بعدهمْ تدخلت الْأَهْوَاء وتأثر كثير من النَّاس بِمَا حدث من بدع وَنحل وأفكار دخيلة على الْإِسْلَام؟..
الثَّالِثَة: أَن يَقُولُوا: إِذا كَانَ من السّلف من لَا يرى مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر، أَو يرى ذَلِك مَكْرُوها فقد وجد فيهم من يرى اسْتِحْبَاب ذَلِك وَأَنه من الْأَعْمَال الصَّالِحَة، أَو أَنه مُبَاح على الْأَقَل، وَلَيْسَ من يرى ذَلِك أولى بِاعْتِبَار رَأْيه من الْفَرِيق الثَّانِي.
وَالْجَوَاب على ذَلِك أَن نقُول: إِذا كَانَ من يرى عدم مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عِنْد الْقَبْر بِالنِّسْبَةِ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد وجد من يُعَارضهُ من معاصريه وأقرانه؛ فَإِن الله قد أمرنَا أَن نرد مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؛ فعلينا أَن نطبق هَذَا الأَصْل الْعَظِيم وَأَن نسلك هَذَا السَّبِيل القويم؛ فَنَنْظُر من يكون الدَّلِيل بجانبه فنعلم أَنه هُوَ الْمُصِيب وَأَن مخالفه على خطأ وَقد حرم الصَّوَاب، وَلَكِن إِن كَانَت الْمَسْأَلَة فِي فروع الشَّرِيعَة، وَهَذَا الْمُخطئ قد بذل وَسعه فِي تحرى الصَّوَاب والتماس الْحق؛ فَلَا لوم عَلَيْهِ وَلَا إِثْم بِشَرْط أَن يكون أَهلا للِاجْتِهَاد وَمن الحائزين على مؤهلاته، أما إِن كَانَت الْقَضِيَّة قَضِيَّة عقيدة فَالَّذِي نعتقده وَالَّذِي فهمناه عَن عُلَمَاء أهل السّنة أَن الْخَطَأ فِي أُمُور العقيدة غير مَعْذُور فِيهِ إِذا كَانَ الْمُسلم يعِيش فِي بِلَاد الْإِسْلَام الَّتِي يُوجد فِيهَا من يبين العقيدة الصَّحِيحَة؛ إِذْ إِن الْإِنْسَان إِمَّا أَن يكون عَالما قَادِرًا على فهم نُصُوص الْوَحْي؛ فسيكون مؤاخذا على الْخَطَأ؛ لِأَن أُمُور العقيدة وَاضِحَة جلية، وَلذَلِك لم يخْتَلف السّلف فِي أُمُور العقيدة مَعَ أَنهم اخْتلفُوا فِي بعض مسَائِل الْفُرُوع، وَإِمَّا أَن يكون جَاهِلا؛ فَعَلَيهِ أَن يسْأَل أهل الذّكر من عُلَمَاء السّنة الَّذين إِذا ذكرُوا حكما ذكرُوا دَلِيله من الْكتاب أَو السّنة.
وَرُبمَا قَالُوا: صَحِيح أَن هَذَا الحَدِيث يُفِيد أَن السَّلَام يبلغهُ - عَلَيْهِ السَّلَام - من الْبعيد كَالصَّلَاةِ، وَلَكِن لَا يرد إِلَّا على من سلم من قريب!
فَنَقُول لَهُم حِينَئِذٍ: مَا الدَّلِيل على مَا زعمتم؟.. هَذَا مُجَرّد ظن وَتدْخل فِي أُمُور الْغَيْب الَّتِي هِيَ من اخْتِصَاص الله وَحده، وَلَا سَبِيل إِلَى علمهَا من غير طَرِيق الْوَحْي.
النَّاحِيَة الثَّانِيَة: مَاذَا يَعْنِي فَضِيلَة الشَّيْخ حِين يَقُول: وَمَا كَانَ هَذَا السَّلَام يَوْمًا من الْأَيَّام إِلَّا من دَاخل الْمَسْجِد سَوَاء قبل أَو بعد إِدْخَال الْحُجْرَة؟.. إِن كَانَ يَعْنِي هَذَا النَّوْع المبتدع الَّذِي تمارسه الْعَامَّة والدهماء، وَهَذَا الضجيج والأصوات الْعَالِيَة بَين مُنَاد وداع ومتوسل ومستجير وطالب للشفاعة من غير مَالِكهَا.. إِن كَانَ هَذَا هُوَ الَّذِي يقْصد الشَّيْخ فَلْيقل فِيهِ فضيلته مَا شَاءَ، وَلَيْسَ لدينا أَي اعْتِرَاض أَو مناقشة؛ لأننا لَا نعترف بِهَذَا النَّوْع من السَّلَام أصلا وَلَا نعتبره من الدّين الَّذِي أنزلهُ الله على رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلكنه من مخلفات عصور الانحطاط الَّذِي نتج عَنهُ قيام الوثنية فِي أغلب بلدان الْمُسلمين إِلَّا مَا طهره الله - كأرض المملكة الْعَرَبيَّة السعودية - من هَذِه الوثنية، بفضله تَعَالَى ثمَّ ببركة الدعْوَة الصَّالِحَة وَالْحَرَكَة الناجحة
الصفحة 187
322