كتاب تدوين السنة ومنزلتها

عصر التابعين وتابعيهم:
وإذا انتقلنا إلى عصر التابعين هالتنا تلك الروايات المتضافرة على كراهة كبار التابعين وأوساطهم وأواخرهم للكتابة، ثم لا نلبث أن تجد كثيرا منهم يتساهلون في أمرها، يرخصون بها أو يحضون عليها، ونجدها أصبحت أمرا رسميا في عصر أوساطهم.
والأسباب التي حملت الخلفاء الراشدين على الكراهة على التدوين، هي التي حملت التابعين عليها، فإذا بطلت أسباب هذه الكراهة قال الجميع قولا واحدا، وأخذوا به وأجمعوا عليه، وهو جواز كتابة العلم، بل وإيثار تقييده التشجيع عليه.
هنا جاء دور الخليفة الورع التقي عمر بن عبد العزيز، حين أمر رسميا بالشروع في تدوين الحديث، إنما استند إلى آراء العلماء، ولعله لم يقدم على ذلك إلا بعد أن استشارهم أو اطمأن إلى تأييد كثرتهم، وإن كانت الأخبار المتضافرة توحي بتفرده في هذه الفكرة؛ لما له في القلوب من منزلة ولا سيما بين معاصريه الواثقين بتقواه وورعه.
ويتضح من جملة الأخبار المروية في هذا الشأن أن خوف عمر عبد العزيز من دروس العلم وذهاب أهله هو الذي حمله على الأمر بالتدوين.
التدوين العام للحديث:
يقول الحافظ ابن حجر في مقدمته:" اعلم - علمني الله وإياك - أن آثار النبي صلى الله عليه وسلم، لم تكن في عصر أصحابه وكبار تبعهم مدوّنة في الجوامع ولا مرتبة لأمرين:
أحدهما: أنهم كانوا في ابتداء الحال قد نهوا عن ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم؛ خشية أن يختلط بعض ذلك بالقرآن العظيم.
وثانيهما: لسعة حفظهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة".
أقول: نفي كتابة الآثار المشار إليها، ليس على إطلاقه؛ فقد وجد من كتب أن عهد الني صلى الله عليه وسلم وأقره بل طلب عليه السلام أن يكتب كتابا لأصحابه، كما تقدم.
فيحمل كلام ابن حجر على الكتابة العامة.
يقول ابن حجر: "فأول من جمع ذلك الربيع بن صبيح (توفي 160 هـ) ، وسعيد بن أبي عروبة (156هـ) وغيرهما، وكانوا يصنفون كل باب على حدة، إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة؛ فدونوا الأحكام.
فصنف الإمام مالك "الموطأ" وتوخى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، ومن بعدهم (توفي 179 هـ) .

الصفحة 42