كتاب تدوين السنة ومنزلتها

والشيء اليسير الذي يقف عليه الباحث بعد الاستقصاء حتى خيف عليه الدروس وأسرع في العلماء الموت، أمر عمر بن عبد العزيز أبا بكر الحزمي، فيما كتب إليه: أن انظر ما كان من سنة أو حديث فاكتبه.
وقال مالك في الموطأ رواية محمد بن الحسن: "أخبرنا يحي بن سعيد أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى الأمصار إلى أبي بكر بن عمرو بن حزم1 به. علقه البخاري في صحيحه"2.
وروى عبد الرزاق عن ابن وهب، سمعت مالكا يقول: "كان عمر بن عبد العزيز يكتب إلى الأمصار يعلمهم السنن والفقه، ويكتب إلى المدينة يسألهم عما مضى، وأن يعملوا بما عندهم، ويكتب إلى أبي بكر بن حزم أن يجمع السنن، ويكتب بها إليه، فتوفي عمر بن عبد العزيز وقد كتب ابن حزم كتبا قبل أن يبعث بها إلينا ... " اهـ3. وفي رواية أن عمر بن عبد العزيز، كتب إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم يأمره: "..انظر ما كان من حديث رسول الله أو سنة ماضية، أو حديث عمرة4 فاكتبه"، وقد ضم إليها في بعض الروايات اسم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (107هـ) .
وكلاهما من تلاميذ عائشة؛ فكانا أعلم الناس بأحاديثها عن رسول الله، ولقد قام أبو بكر بن حزم بما عهد إليه عمر، ولكن هذا الخليفة العظيم لحق بربه قبل أن يطلعه على نتائج سعيه، على أن عمر كان قد كتب إلى أهل الآفاق وإلى عماله في الأمصار بمثل ما كتب إلى ابن حزم5.
وكان أول من استجاب له في حياته وحقق له غايته عالم الحجاز والشام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري المدني6 الذي دون له في ذلك كتابا، فغدا عمر يبعث إلى كل أرض دفترا من دفاتره، وحق للزهري أن يفخر بعلمه قائلا: "لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني"7.
ويخيل إلى الباحث عندما يبلغ هذه المرحلة من الدراسة أن فكرة كره التدوين قد اختفت إلى الأبد، وأنها في هذا العصر بدأت تنسى.
__________
1 انظر تنوير الحوالك ص 15 هـ قال ابن حجر في فتح الباري: أبو بكر بن حزم، هو ابن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، نسب إلى جد أبيه، ولجده عمرو صحبة، ولأبيه محمد رؤية، وأبو بكر تابعي فقيه استعمله عمر بن عبد العزيز على إمرة المدينة وقضائها، ولهذا كتب إليه، ولا يعرف له اسم سوى أب بكر وقيل كنيته أبو عبد الملك، واسمه أبو بكر، وقيل اسمه (فاكتبه) يستفاد منه ابتداء تدوين الحديث النبوي، فكانوا فبل ذلك يعتمدون على الحفظ، فلما خاف عمر بن عبد العزيز وكان على رأس المائة الأولى من ذهاب العلم بموت العلماء رأى في تدوينه ضبطا له وبقاء الخ. - فتح الباري كتاب العلم باب كيف يقبض العلم ج1 ص204.
2 قال البخاري: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه، خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا يقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وليشفوا العلم، وليجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا، ورواه أيضا من طريق عبد الله بن دينار عن عمر بن عبد العزيز اهـ. جـ1 ص204 نفس الكتاب والباب السابقين.
3 انظر تدريب الراوي ص40 ط1.
4 عمرة بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة وقد روى الزهري عن عمرة بنت عبد الرحمن وآخرون وروت عائشة وأم سلمة وكانت عالمة اهـ جـ 8ص353- طبقات ابن سعد. ط الشعب.
5 الرسالة المستطرفة ص4.
6 محمد بن مسلم بن عبد الله بن عبيد الله بن شهاب الزهري أبو بكر المدني أحد الأعلام نزل الشام. روى عن ابن عمر وجابر وأنس وغيرهم من الصحابة وعنه أبو حنيفة ومالك وعمر بن عبد العزيز وغيرهم مات سنة أربع ومائة وعشرين ومائة اهـ إسعاف المبطأ للسيوطي ص37.
7الرسالة المتطرفة ص4.. أقول: قال أبو داود حديثه ألفان ومائتان، النصف فيها مسندا اهـ. مقدمة تحفة الأحوذي ص 475.

الصفحة 45