كتاب تدوين السنة ومنزلتها

ومما تقدم يتبين لنا أن علماء التدوين قد طوفوا الدنيا كلها، وانتشروا في البلدان والأمصار وأحاطوا بها يجمعون ويكتبون في حركة نشطة دائبة يواصلون الليل بالنهار؛ ليسجلوا أجلّ وأخلد سجل عرفته البشرية على الإطلاق، على امتداد تاريخها الطويل، فبعد كتاب الله جندوا أنفسهم وأقلامهم ليدونوا مصدر شريعتهم، ومنبع عزهم الدائم.
وأقول: إن رأي أكثر العلماء في ذلك العصر من التردد في شأن الكتابة، بين الفعل والترك يرجع الى أمرين:
فالحرص على كلام رسول الله أن يضيع كالخوف عليه أن يشيع فيه غير الصحيح كانا عاملين كبيرين في توجيه العلماء نحو القول بكتابة الحديث تارة والنهى عنها تارة أخرى.
وإذا كان أوساط التابعين قد بدءوا يحذرون وضع الوضاعين فان أواخر التابعين أمسوا يصادفون كثيرا من نماذج الوضاعين وصور وضعهم؛ تأييدا للفرق والشيع المختلفة، فقد أمسى لزاما أن يشيع التدوين وينتشر في عصرهم حفظا للنصوص النبوية من عبث العابثين، وميزة التدوين في هذا العصر أن الحديث كان ممزوجا غالبا بفتاوى للصحابة والتابعين، كما في موطأ مالك.
خلاصة تدوين السنة
يبدأ هذا الدور من أوائل القرن الثاني إلى آخر القرن الثالث، وكان هذا الدور عصرا مجيدا للسنة، فقد تنبه رواتها إلى وجوب تصنيفها وتدوينها، ومعنى تصنيفها ضم الأحاديث التي من نوع واحد في الموضوع بعضها إلى بعض كأحاديث الصلاة وأحاديث الصيام وما شاكل ذلك.
وجدت هذه الفكرة في جميع الأمصار الإسلامية في أوقات متقاربة حتى لم يعرف من له فضيلة السبق إلى ذلك.
ونستطيع أن نحدد هذا الدور بثلاثة أطوار:
الطور الأول:
فكان من مدوني الطور الأول من هذا الدور الإمام مالك بن أنس بالمدينة، وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة.. إلى آخر من تقدموا وتقدمت طريقتهم في التدوين أيضا.
الطور الثاني:
رأت طبقة ثانية بعد هؤلاء أن يفرد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن غيره، وذلك على رأس المائتين؛ فألفوا ما يعرف بالمسانيد.
والمسانيد من الكتب التي موضوعها جعل حديث كل صحابي على حدة صحيحا كان أو حسنا أو ضعيفا، وان اختلفت أنواعه، فتارة ترتب فيه أسماء الصحابة على حروف الهجاء، كما فعله غير واحد،

الصفحة 46