كتاب علم الجرح والتعديل

قَالَ الله تَعَالَى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ..} 1.
وَقَالَ بَعضهم: الاغتياب حرَام والغيبة ذكر الْإِنْسَان بِمَا يكره فِي غيبته- والبهت وَجهه، وَكِلَاهُمَا مَذْمُوم كَانَ بِحَق أَو بباطل، إِلَّا أَن يكون بِوَجْه شَرْعِي..
فَيَقُول ذَلِك فِي وَجهه على طَرِيق الْوَعْظ والنصيحة وَله التَّعْرِيض دون التَّصْرِيح والْحَدِيث رَوَاهُ مُسلم بِسَنَدِهِ عَن الْعَلَاء عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة بِهِ.
قَالَ النَّوَوِيّ: "بَاب تَحْرِيم الْغَيْبَة وَفِيه يُقَال بَهته بِفَتْح الْهَاء مُخَفّفَة قلت فِيهِ الْبُهْتَان وَهُوَ الْبَاطِل؛ والغيبة: ذكر الْإِنْسَان فِي غيبته بِمَا يكره وأصل البهت أَن يُقَال لَهُ الْبَاطِل فِي وَجهه وهما حرامان لَكِن تُبَاح لغَرَض شَرْعِي، وَذَلِكَ لسِتَّة أَسبَاب:
(1) التظلم فَيجوز للمظلوم أَن يتظلم لَدَى السُّلْطَان وَالْقَاضِي وَغَيرهمَا مِمَّن لَهُ ولَايَة، أَو قدرَة على إنصافه من ظالمه، فَيَقُول ظَلَمَنِي فلَان أَو فعل بِي كَذَا..
(2) الاستغاثة على تَغْيِير الْمُنكر ورد العَاصِي إِلَى الصَّوَاب، فَيَقُول لمن يَرْجُو قدرته فلَان يعْمل كَذَا فأزجره عني وَنَحْو ذَلِك..
(3) الاستفتاء: بِأَن يَقُول للمفتي ظَلَمَنِي فلَان أَو أبي أَو أخي أَو زَوجي بِكَذَا فَهَل لَهُ ذَلِك وَمَا طريقي فِي الْخَلَاص مِنْهُ وَرفع ظلمه عني وَنَحْو ذَلِك فَهَذَا جَائِز، والأجود أَن يَقُول فِي رجل أَو زوج أَو وَالِد وَولد كَانَ من أمره كَذَا وَمَعَ ذلكَ فالتعيين جَائِز لحَدِيث هِنْد وَقَوْلها: "إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح".
(4) تحذير الْمُسلمين من الشَّرّ وَذَلِكَ من وُجُوه جرح الْمَجْرُوحين من الروَاة وَالشُّهُود والمصنفين، وَذَلِكَ جَائِز بِالْإِجْمَاع، بل وَاجِب صونا للشريعة.
وَمِنْهَا الْإِخْبَار بِعَيْبِهِ عِنْد الْمُشَاورَة فِي مصاهرته، وَمِنْهَا إِذا رَأَيْت من يَشْتَرِي شَيْئا معيبا أَو عبدا سَارِقا أَو زَانيا أَو شاربا أَو نَحْو ذَلِك تذكره للْمُشْتَرِي إِذا لم يلعمه نصيحة لَا بِقصد الْإِيذَاء والإفساد، وَمِنْهَا إِذا رَأَيْت متفقها يتَرَدَّد إِلَى فَاسق أَو مُبْتَدع يَأْخُذ عَنهُ علما وَخفت عَلَيْهِ ضَرَره فَعَلَيْك نصيحته بِبَيَان حَاله قَاصِدا النَّصِيحَة.
وَمِنْهَا أَن يكون لَهُ ولَايَة لَا يقوم بهَا على وَجههَا لعدم أَهْلِيَّته أَو لفسقه فيذكره لمن لَهُ عَلَيْهِ ولَايَة ليستدل بهَا على حَاله فَلَا يغتر بِهِ وَيلْزم الاسْتقَامَة.
(5) أَن يكون مجاهرا بِفِسْقِهِ أَو بدعته كَالْخمرِ ومصادرة النَّاس وجباية المكوس وتولي الْأُمُور الْبَاطِلَة فَيجوز بِغَيْرِهِ إِلَّا بِسَبَب آخر.
(6) التَّعْرِيف: فَإِذا كَانَ مَعْرُوفا بلقب كالأعمش والأعرج والأزرق والقصير وَالْأَعْمَى والأقطع والأحول والضال وَنَحْوهَا جَازَ تَعْرِيفه بِهِ وَيحرم ذكره بِهِ تنقصا.. وَلَو أمكن التَّعْرِيف بِغَيْرِهِ كَانَ أولى.
أما عَن حَدِيث عَائِشَة السَّابِق فِي الرجل الَّذِي تكلم فِيهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم فقد ذكره الْمُنْذِرِيّ فِي مُخْتَصر السّنَن عَن عُرْوَة، وَهُوَ ابْن الزبير رضى الله عَنْهُمَا عَن عَائِشَة رضى الله عَنْهَا قَالَت: اسْتَأْذن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجل فَقَالَ: "بئس ابْن الْعَشِيرَة - أَو بئس رجل الْعَشِيرَة -" ثمَّ قَالَ: "أئذنوا لَهُ". فَلَمَّا دخل ألان لَهُ القَوْل، فَقَالَت عَائِشَة: "يَا رَسُول الله ألنت لَهُ القَوْل وَقد قلت مَا قلت؟ " قَالَ: "إِن شَرّ النَّاس عِنْد الله منزلَة يَوْم الْقِيَامَة من ودعه النَّاس- أَو تَركه - النَّاس اتقاء فحشه".
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ.
قَالَ الْمُنْذِرِيّ: "وَهَذَا الرجل هُوَ عُيَيْنَة بن حصن بن حُذَيْفَة بن بدر الْفَزارِيّ".
وَقيل: "هُوَ مخرمَة بن نَوْفَل الزُّهْرِيّ وَالِد الْمسور بن مخرمَة".
وَعَن أبي سَلمَة، وَهُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: أَن رجلا اسْتَأْذن على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: "بئس أَخُو الْعَشِيرَة.. فَلَمَّا دخل انبسط إِلَيْهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَلمه، فَلَمَّا خرج قلت: "يَا رَسُول الله لما اسْتَأْذن قلت بئس أَخُو الْعَشِيرَة فَلَمَّا دخل انبسطت لَهُ؟ "
__________
1 سُورَة الْبَقَرَة آيَة (258)

الصفحة 69