كتاب أضواء على القرآن الكريم (بلاغته وإعجازه)

أي محمل من محامل اللفظ، وعلى أية صورة من صوره… حتى لقد كاد ذلك يذهب بكثير منهم إلى الخروج على الأساليب العربية والذوق العربي1.
لهذا وقف الجاحظ في وجه هذا التيار، وتصدى له، ودفع به إلى الوراء بعيدا… فانحسر شيئا فشيئا، وجعل أولئك الذين كانوا قد ركبوا هذا المركب لاصطياد المعاني، يعودون رويدا إلى الساحل، حيث يأخذون من المعاني ما تنال أيديهم، وما تبلغ أفكارهم.
رأي الجاحظ
والرأي الذي دعا إليه الجاحظ، هو أن البلاغة نظم وصياغة… فمن أخطأه حسن النظم، وحبكة الصياغة، فقد أخطأت كلامه عناصر الحياة، وجمدت فيه عروق البلاغة والبيان… وذلك أن المعنى الذي يخرج في صورة من النظم المضطرب ومن الصياغة المختلطة، هو معنى شأنه ذميم.
ويشهد عبد القاهر الجرجاني آثار هذه المعركة التي كانت دائرة بين اللفظ والمعنى، ويراها في مخلفات الجاحظ الذي كان ينتصر للفظ، من جهة، وفي مخلفات من كانوا يقفون ضده… في الجهة الأخرى.
ويقف "عبد القاهر" إلى جانب رأي الجاحظ، ويقفو أثره، ويتخذ من هذا الرأي حجته على وجه الإعجاز في القرآن.
ولا تحسبن أن "الجاحظ" يهون من شأن المعنى، أو يغمض من قدره… وكيف وهو رجل راجح العقل ... وفير العلم والحكمة والأدب؟
فالجاحظ لم ينتصر للفظ، ولم يقف إلى جانب الأسلوب، إلا لمواجهة هذا الخطر الداهم على اللغة، والذي أشرنا إليه آنفا، وإلا فإنه حفي بالمعنى مؤثر له، حريص عليه ما دام لم يجر على الأسلوب، ولم يفسد كيانه، ولم يشوه بنيانه.
__________
1 إن نقل الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية إلى اللغة العربية كانت له آثاره المعروفة في ظهور النزعات الكلامية والاعتزالية وكذلك ظهور الفرق التي أدخلت حشدا من البدع إلى الإسلام، أما العلماء الذين استمسكوا بهدي الكتاب والسنة فقد حماهم الله تعالى وكانوا بمنجاة من تلك الآثار السيئة، بل أظهروا عوارها وحذروا الناس منها (المجلة) .

الصفحة 101