كتاب أضواء على القرآن الكريم (بلاغته وإعجازه)

مكان وبذلك نشرت صفحات جديدة مشرقة ناضرة في تاريخ الإنسانية، وكان لها من وراء ذلك ميلاد حضارة جديدة.
إنه ألفاظ إذا اشتدت فأمواج البحار الزاخرة، وإذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، تذكر الدنيا فمنها عمادها ونظامها، وتصف الآخرة فمنها جنتها وضرامها، ومتى وعدت من كرم الله جعلت الثغور تضحك في وجه الغيوب، وإن أوعدت بعذاب الله جعلت الألسنة ترعد من حمى القلوب.
ومعانٍ بَيْنا هي عذوبة ترويك من ماء البيان، ورقة تستروح منها نسيم الجنان، ونور تبصر به في مرآة الإيمان وجه الأمان، بينا هي تمثل للمذنب حقيقة الإنسانية حتى يظن أنه صنف آخر من الإنسان، إذ هي بعد ذلك إطباق السحاب انهارت قواعده والتمعت ناره وقصفت في الجو رواعده، وإذ هي السماء وقد أخذت على الأرض ذنبها، واستأذنت في صدمة الفزع ربها، فكادت ترجف الراجفة، تتبعها الرادفة: وإنما هي زجرة واحدة، فإذا الخلق طعام الفناء وإذا الأرض مائدة…1.
ولقد كانت للرسول العظيم عليه الصلاة والسلام معجزات كثيرة تدل على صدقه، وأنه مرسل من قبل الله تعالى، فالمعجزة مختصة بالنبي دائما، وتقترن بالتحدي، ومن ثم لا يمكن تحصيلها بالجهد أو الاكتساب.
وكذلك للأنبياء معجزات ظهرت على أيدي كثير منهم، بيد أن معجزة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تفوق معجزات غيره سواء من حيث العدد أو من حيث الأهمية.
فإذا كان الله أظهر معجزة لموسى هي أن يضرب البحر فانفلق في الأرض.
فكذلك أظهر لمحمد عليه الصلاة والسلام فانشق له القمر في السماء.
وكما فجر لموسى عليه السلام الماء من الحجر، فقد فجر لمحمد صلى الله عليه وسلم من أصابعه عيونا.
وكما ظلل على موسى عليه السلام بالغمام، فقد ظلل محمدا صلى الله عليه وسلم كذلك بالغمام.
وكما جعل من معجزات موسى عليه السلام اليد بيضاء، فقد جعل من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم القرآن.
وكما سبحت الجبال مع داود عليه السلام فقد سبحت االأحجار في يد الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما سخر الله لداود الطير المحشورة، سخر لمحمد البراق يطير في السماء.
وكما جعل من معجزات عيسى عليه السلام إبراء الأكمه والأبرص..فقد جعل شبيها بذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقد سقطت حدقة رجل في غزوة أحد فرفعها وردها إلى مكانها.
وانقادت الجن لسليمان، وانقادت كذلك للرسول صلى الله عليه وسلم.
ومعجزات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصى، ويمكن أن نضيف إلى ما ذكرناه، حنين الجذع وانقياد الأغصان، وجعل قليل الطعام كثيرا، كل ذلك على مشهد من الناس
__________
1 إعجاز القرآن ص26 للرافعي.

الصفحة 92