كتاب ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة

مقصرا في معرفة الحق وآثما بترك الصبر، ولكن قد يؤجر على اجتهاده ويعفى له عن تقصيره، وأما ترك الصبر فعليه إثم ذلك.
وأما إذا كان غير مجتهد في معرفة الحق ولم يصبر، فإنه يجتمع عليه ثلاثة ذنوب، الأول لتركه الاجتهاد في طلب الحق والثاني لتركه الصبر على البلوى والثالث لعدم إصابته الحق ووقوعه في الخطأ.
والمقصود أنه لا يحل دفع الأذى الذي يكون في دفعه فتنة بين الأمة، أو ينتج عنه شر عظيم أو أعظم من الأذى المطلوب دفعه، أو يكون في دفعه ظلم وعدوان، بل المتعين حينئذ الصبر والاحتمال وضبط النفس، فإن ذلك في حق المظلوم ابتلاء وامتحان، وإذا صبر واحتسب كانت العاقبة له، وقد قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي يبتلى بعضكم ببعض لينظر من يصبر فيستحق الجزاء الأوفى، في الدنيا والآخرة.
وأخبر تعالى عن رسله أنهم قالوا لقومهم: {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فجعلهم أئمة بالصبر واليقين، فبذلك تُنال الإمامة في الدين.
والخطأ يحصل في هذا إما بسبب جزع المظلوم أو بسبب قلة صبره أو ضعف رأيه فإنه قد يظن أن القتال أو نحوه في الفتنة يدفع الظلم عنه ولا يدري أنه يضاعفه ويزيد الشر كما هو الواقع.
والمظلوم وإن كان مأذونا له في دفع الظلم عنه، كما في قوله تعالى: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} فذلك مقيد بشرطين.
أحدهما القدرة على ذلك؛ فإنه إذا كان غير قادر زاد ظلمه.
والثاني أن لا يتعدى، كما قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} فأخبر تعالى أن الانتصار جائز لمن يقدر عليه ولا يعتدي وأن الصبر أفضل، فإذا لم يتوافر الشرطان لم يجز.
وهذا كله إذا لم يكن الباغي الظالم هو الإمام الذي له قوة وأتباع، فإذا كان هو لم يجز الانتصار والانتقام، لما يترتب على ذلك من الشر العريض والفتنة التي فيها من الضرر

الصفحة 19