كتاب عقود التأمين حقيقتها وحكمها

والأحاديث في هذا الباب تدل على أنه لا يتقيد بالتسوية إلا في القسمة1 وأما في الأكل فلا تسوية لاختلاف حال الآكلين ولأن الذي يوضع للأكل سبيله المكارمة لا التشاح ... وقد اغتفر الربا في النهد لثبوت الدليل على جوازه2 وذلك أن الشخص قد يأكل أكثر أو أقل مما أخرج وكذلك في القسمة قد يكون ما يقسم للشخص أكثر أو أقل ما أخذ منه لكنه اغتفر هذا الفضل للدليل الدال على جوازه.
وما حصل فيما ذكر لم يتم عن طريق التعاقد والالتزام بين أطراف في هذا التعاقد بدفع شيء معين أو غير معين مقابل التزام آخر وإنما يتم عن طريق المواساة في أوقات الحاجة والمجاعة.
وكذلك ليس فيما ذكر إرادة المبايعة والبدل وإنما يفضل بعضهم بعضاً بطريق المواساة.. فما ذكر في هذه الأحاديث إنما هو خلط الزاد في السفر والإقامة من باب الإيثار والمواساة وطلب البركة3 فلا يصلح أن يستدل بها لإنشاء عقد تأمين بدعوى أنه تعاوني وليس تجاري.
والذي يظهر أن ما ورد في هذا إنما هو حالة استثنائية خاصة فيمكن أن يطبق حكمها على ما يماثلها فقط ولا يصح أن تجعل قاعدة عامة يبنى عليها تنظيم عام وهذا ما يدل عليه تقييد العلماء للنهد بما تقدم كما يدل عليه الحالات التي حصلت فيها الشواهد المذكورة.
ثم إنه لا عبرة بتسميته تأمين تعاوني وإنما العبرة بالكيفية التي يتم بها هذا الشيء فإن كان على سبيل التبرع والإحسان بحيث لا يلزم أحد بدفع أقساط معينة بل كل يدفع ما شاء متى شاء وكذلك لا يلتزم له بدفع تعويض عن خطر ما وإنما يواس ويجبر دون التزام له بذلك فإن كان بمثل هذه الكيفية فلا بأس به إن شاء الله و {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} ويغتفر في التبرعات ما لا يغتفر في غيرها.
وأما إن كان عن طريق التعاقد بان يلتزم كل واحد بدفع أقساط معينة ويلتزم له
__________
1 في حديث سلمة لم يذكر فيه التسوية في القسمة إلا أن يقال إن مثل هذا داخل في موضوع المعجزات فلا يستدل به لهذا الباب أصلا وهذا هو الظاهر.
2 انظر فتح الباري 5/ 129 وعمدة القاري شرح صحيح البخاري 13/ 40 و. 5 للعيني الناشر دار الفكر.
3 يدل لهذا ما رواه أبو عبيد في الغريب عن الحسن قال: "أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لأخلاقكم " انظر فتح الباري 5/ 129وقال العيني: " وحكى عن عمرو بن عبيد عن الحسن فساقه وزاد "وأطيب لنفوسكم " عمدة القاري 13/ 40والله أعلم بالصواب.

الصفحة 94