كتاب الحيل

المشتري، فقد يكون أقل منه أو أكثر فيفضي إلى الربا وأقل الأقسام أن نجهل المساواة.
وأيضا فلو وكلناه إلى تقديرهما أو تقدير أحدهما لكثر النزاع والخصام بينهما فحسم الشارع الحكيم صلاة الله وسلامه عليه وعلى آله النزاع وقدره بحد لا يتعديانه قطعا للخصومة، وفصلا، للمنازعة، وكان تقديره بالتمر أقرب إلى الأشياء إلى اللبن فإنه قوت أهل المدينة كما أن اللبن كان قوتاً لهم، وهو مكيل كما أن اللبن مكيل وأيضا فكلاهما يقتات به بلا صنعة ولا علاج بخلاف الحنطة والشعير والأرز، فالتمر أقرب الأجناس التي كانوا يقتاتون لها إلى اللبن، فإن قيل فأنتم توجبون صاع التمر في كل مكان سواء كان قوتا لهم أو لم يكن، فالجواب أن هذا من مسائل النزاع وموارد الاجتهاد فمن الناس من يوجب ذلك ومنهم من يوجب في كل بلد صاع عن قوتهم وهذا القول الثاني أقرب إلى قواعد الشريعة كما قدمنا ذلك.
قرر ذلك كله ابن القيم وكذلك الخطابي في معالم السنن وابن دقيق العيد في شرح العمدة والحافظ في الفتح وابن العربي في شرح الترمذي وغيرهم، وقد ذكروه بأبسط من هذا.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نذكر أن الكل مجمعون على أن التصرية حرام، وغش وخداع، غاية الأمر أن الإمام أبا حنيفة وصاحبيه محمدا وأبا يوسف في المشهور عنه يقولون ليس للمشتري رد المصراة بخيار العيب لأنه وجد ما يمنع الرد وهو الزيادة المنفصلة وأما الرجوع بالنقصان ففيه روايتان عن أبي حنيفة، في رواية شرح الطحاوي يرجع على البائع بالنقصان في الثمن لتعذر الرد، وفي رواية الأسرار لا يرجع بالنقصان لأن اجتماع اللبن وجمعه لا يكون عيبا أفاده العيني في شرح البخاري1، وأجابوا عن الحديث بما سمعت، وقد علمت أنها حجج غير ناهضة فلا نترك السنة الثابتة بمثلها.
ووجه الدلالة من حديث التصرية على تحريم الحيل أن التصرية حبس اللبن في ضرع الناقة أو البقرة أو الشاة عدة أيام حتى يمتلأ باللبن، فإذا عُرضَتْ بهذا الشكل زادت رغبة الناس فيها لظنهم أن كثرة لبنها وكبر ضرعها أمر جبلي، ولا ريب أن هذه حيلة ظاهرها أن كثرة اللبن من أصل الخلقة وباطنها الكذب والخداع والتغرير بالمشتري ليغالي في ثمنها، وقد جاءت الشريعة باعتبار المقاصد في العقوبات فأهملت الصورة ونظر إلى المعنى، فإن حبس اللبن مدة معلومة أمر مباح ما لم يتضرر الحيوان لكن لما اتخذ وسيلة إلى أكل أموال الناس بالباطل صار حراما بهذا القصد.
__________
1 جـ11 ص 272.

الصفحة 141