كتاب الحيل

وأيضا فلم يعرف أحد قط من التابعين أنكر على العالية هذا الحديث ولا قدح فيها من أجله، ويستحيل في العادة أن تروي حديثا باطلا ويشتهر في الأمة ولا ينكره عليها منكر.
وأيضا فإن في الحديث قصة.
والحديث عند الحفاظ إذا كان فيه قصة دلهم على أنه محفوظ، وأيضا فهذا الحديث إذا انضم إلى تلك الأحاديث والآثار التي تفيد تحريم هذا البيع أفادت بمجموعها الظن الغالب إن لم تفد اليقين، وأيضا فلو لم يأت في هذه المسألة أثر لكان محض القياس ومصالح العباد وحكمة الشريعة تفيد تحريم هذا البيع، فإنه ربا مستحل بأدنى الحيل، فكيف يليق بالشريعة الكاملة التي لعنت آكل الربا وموكله، وبالغت في تحريمه، وآذنت صاحبه بحرب من الله ورسوله، أن تبيحه بأدنى الحيل مع استواء المفسدة، ولولا أن عند أم المؤمنين رضي الله عنها علما من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تستريب فيه ولا تشك بتحريم مسألة العينة لما أقدمت على الحكم بإبطال جهاد رجل من الصحابة باجتهادها لكن عذر زيد أنه لم يعلم أن هذا محرم، ولهذا أمرت بإبلاغه، فمن بلغه التحريم وتبين له ذلك ثم أصر عليه لزمه هذا الحكم.
ومعلوم أن هذا لو كان مما يسوغ فيه الاجتهاد لم يكن إثما، فضلا عن أن يكون من الكبائر، فلما قطعت بأنه من الكبائر وأمرت بإبلاغه ذلك علم أنها علمت أن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد وما ذاك إلا عن علم وإلا فالاجتهاد لا يبطل الاجتهاد، ولا يحكم ببطلان عمل المسلم المجتهد بمخالفته لاجتهاد نظيره، والصحابة - ولاسيما أم المؤمنين - أعلم بالله ورسوله وأفقه في دينه من ذلك، وأيضا فإن الصحابة كعائشة وابن عباس وأنس أفتوا بتحريم ذلك البيع وغلظوا فيه في أوقات مختلفة، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة، بل ولا من التابعين رخص في ذلك، بل عامة التابعين من أهل المدينة والكوفة وغيرهم على تحريم ذلك، فيكون حجة، بل إجماعا.
فإن قيل: فزيد بن أرقم قد خالف عائشة ومن ذكرتم، فغاية الأمر أنها مسألة ذات قولين للصحابة، وهي مما يسوغ فيها الاجتهاد، فالجواب: أن زيدا لم يقل قط أن هذا حلال ولا أفتى بها يوما، ومذهب الرجل لا يؤخذ من فعله، إذ لعله فعله ناسيا أو ذاهلا أو متأولا أو ذنبا يستغفر الله منه ويتوب أو يصر عليه وله حسنات تقاومه.
وإذا كان الفعل محتملا لهذه الوجوه وغيرها لم يجز أن ينسب لأجله اعتقاد حل هذا إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، لاسيما وأم ولده إنما دخلت على عائشة تستفتيها، وقد رجعت

الصفحة 147