كتاب الحيل

ثالثا: ومن الأحاديث الدالة على تحريم العينة ما رواه الإمام أبو عبد الله بن بطة بإسناده إلى الأوزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي على الناس زمان يستحلون الربا بالبيع " يعني العينة.
وقد انضم إلى هذا الحديث المرسل آثار عن الصحابة تقويه، منها: عن أنس بن مالك أنه سئل عن العينة فقال: "إن الله لا يخدع هذا مما حرم الله ورسوله"، وعن ابن سيرين قال: قال ابن عباس: "اتقوا هذه العينة، لا تبع دراهم بدراهم وبينهما حريرة" رواهما محمد بن عبد الله الكوفي المعروف بمطين في كتاب البيوع وفي رواية عن ابن عباس. فقال: "دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة" ذكره القاضي أبو يعلى الحنبلي وغيره وفي لفظ عن ابن عباس أنه سئل عن العينة يعني بيع الحريرة فقال، إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله ورسوله، والصحابي إذا قال حرم الله ورسوله أو أوجب الله ورسوله ونحو هذا فإن حكمه حكم ما لو روى لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدال على التحريم والإيجاب، ليس في ذلك إلا خلاف شاذ، لأن رواية الحديث بالمعنى جائزة وهو أعلم بمعنى ما سمع، فلا يقدم على القول بمثل ذلك إلا بعد التثبت، واحتمال الوهم احتمال مرجوح كاحتمال غلط السمع أو نسيان القلب.
وهذه الآثار إذا انضمت إلى مرسل الأوزاعي تجعله صالحا للاحتجاج به وإن لم يكن عليه وحده الاعتماد، ومن المعلوم أن العينة عند مستحلها إنما يسميها بيعا، وفي هذا الحديث والآثار الشاهدة له بيان أنها ربا لا بيع، فإن الأمة لم يستحل أحد منها الربا الصريح، وإنما استحل باسم البيع وصورته، ومن الواضح أن الربا لم يحرم لمجرد صورته ولفظه، وإنما حرم لحقيقته ومعناه ومقصوده، وهى قائمة في الحيل الربوية كقيامها في صريحه سواء، والمتعاقدان يعلمان ذلك من أنفسهما، ويعلمه من شاهد حالهما، والله يعلم أن قصدهما نفس الربا، لكنما توصلا إليه بعقد غير مقصود وسمياه باسم مستعار، فإن الله سبحانه حرم الربا لما فيه من ضرر المحتاج، وتعريضه للفقر الدائم، والدين اللازم، وتولد ذلك وزيادته إلى غاية تجتاحه متاعه، وتسلبه أثاثه، كما هو الواقع في الشاهد، فمن تمام حكمة الشريعة الكاملة المتضمنة لمصالح العباد تحريمه وتحريم الذرائع الموصلة إليه كما حرم التفرق في الصرف قبل القبض، وأن يبيعه درهما بدرهم إلى أجل وإن لم يكن هناك زيادة، فكيف يظن بالشارع مع كمال علمه وحكمته أن يبيح الحيل والمكر على حصول هذه المفسدة ووقوعها متضاعفة بصورة عقد يتوصلان به إليها.
وأنت إذا تأملت الحيل المتضمنة لتحليل ما حرم الله سبحانه وتعالى، وإسقاط ما أوجبه، وجدت الأمر فيها كذلك، ووجدت المفسدة الناشئة منها أعظم من المحرمات الباقية

الصفحة 149