كتاب الحيل

والشواهد، وليس قصدنا في بحثنا هذا الاستقصاء فهذا بحر واسع يصعب غوره، ويطول وأما الإجماع فقد أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على تحريم الحيل، وتقرير هذا الإجماع من عدة وجهه:
أحدها: أن المقتضي لهذه الحيل كان موجودا في عهدهم ولم يعملوا بها ولم يدلوا أحدا عليها فعلم أنها لم تكن عندهم من الدين في شيء، إذ لو كانت مشروعة ما استغنى عنها القوم لأنهم أهل حرث وتجارة فلو كانت البيوع الربوية وما شاكلها مشروعة لعملوا بها وأفتوا الناس بجوازها، وكذلك الطلاق الثلاث كان واقعا في عهدهم وكان المطلقون والمطلقات يندمون ويتمنون الرجوع إلى بعضهم كما في قصة امرأة رفاعة القرظي فلو كان الحل يثبت بنكاح التحليل لأوشك أن يدلوا عليه فكيف وقد شددوا فيه حتى سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحلل التيس المستعار.
وهكذا سائر الحيل كانت أسبابها قائمة، ودواعيها متوافرة ولم يفعلوها فدل ذلك على أنها لم تكن من الدين بإجماع منهم.
الوجه الثاني: أن الكتب المصنفة في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتاوى الصحابة والتابعين وقضاياهم ليس فيها عن أحد منهم أنه عمل بشيء من هذه الحيل أو أفتى بها، ولو عملوا أو أفتوا به لنقل إلينا كما نقل لنا غيره.
والذين صنفوا في الحيل من المتأخرين حرصوا كثيرا على خبر أو أثر يستندون إليه في ذلك فلم يجدوا شيئا من ذلك إلا ما حكى من المعاريض القولية والفعلية التي لا تدل إلى ما ذهبوا إليه من الحيل المناقضة لمقاصد الشارع، فإن تلك المعاريض إما كتم عن المخاطب ما أراد معرفته أو إفهام له بخلاف ما في نفسه، مع أنه صادق فيما عناه، والمخاطب ضل في تعرف الطريق إلى مقصوده، فكيف وما عناه الصادق في قوله يخدم مصلحة شرعية.
الوجه الثالث: ومع أنهم لم يفتوا بشيء من هذه الحيل، ولم يعملوا بها مع قيام المقتضي لها والرغبة إليها لو كانت جائزة، فقد أفتوا بتحريمها وإنكارِها في قضايا متعددة، وقصص مشهورة، وأمصار متباينة فدل ذلك أن إنكارها كان مشهورا بينهم.
فقد خطب عمر بالناس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " لا أوتى بمحلل ولا محلل له

الصفحة 151