كتاب أطيب النشر في تفسير الوصايا العشر (اسم الجزء: 71-72)

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1 فالهرب الهرب من مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنجاة النجاة، بالتمسك بهدية والسير على طريقه وصحابته ففي ذلك التجارة الرابحة، ويلحظ النابه أن محور دعوته صلى الله عليه وسلم بعد توحيد الله تحذير الأمة من الأهواء والبدع وإرشادهم إلى الأخذ بالأمر المستقيم فكان يوصي بلزوم السنة إلى أن فارق الدنيا ففي رواية ابن ماجه لحديث العرباض أنه صلى الله عليه وسلم قال: "تركتكم على البيضاء2، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيرا، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين ... " -وقال في آخره: "فإنما المؤمن كالجمل الأنف3، حيثما قيد انقاد" 4، هذا ما أوصى به نبي الهدى أمته وتواصى بالتمسك به أصحابه من بعده، قال الدارمي رحمه الله: أخبرنا الحكم بن المبارك5، أنا عمر بن يحيى6 قال سمعت أبي7، يحدث عن أبيه8 قال: "كنا نجلس على باب عبد الله بن مسعود قبل صلاة الغداة، فإذا خرج مشينا معه إلى المسجد، فجاءنا أبو موسى الأشعري فقال: أخرج إليكم أبو عبد الرحمن؟ قلنا: لا. فجلس معنا حتى خرج، فلما خرج قمنا إليه9 جميعاً، فقال له أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن إني رأيت في المسجد آنفاً أمرا أنكرته10، ولم أر والحمد لله إلا
__________
1 الآية 63 النور.
2 شبه منهجه صلى الله عليه وسلم بالجادة الواضحة؛ الطريق الأبلج الذي لا يضل سالكه.
3 شبه انقياد المؤمن للحق عند سماعه بالجمل الذي يخزم أنفه فينقاد لصاحبه، فالجمل الأنف هو الذي يشتكي أنفه من الوجع (الصحاح1/ 54) .
4 ابن ماجة 1/16 وتقدم أنه عند أبي داود والترمذي.
5 الخاشتي، صدوق ربما وهم، مات سنة عشر ومائتين.
6 هكذا عند الدارمي. والصواب عمرو بن يحيى بن عمرو بن سلمة بن الحارث، الكوفي، ذكره الحافظ في (اللسان4/378) وقال: قال ابن معين: "حديثه ليس بشيء، قد رأيته". ولم أقف عليه في تاريخ ابن معين، وسبق الحافظ إلى نقل هذه العبارة الحافظ الذهبي (الميزان 3/ 293) .
7 يحيى بن عمرو بن سلمة، لم يذكره أبو حاتم بجرح ولا تعديل (الجرح والتعديل 9/176) .
8 عمرو بن سلمة بن الحارث، الهمداني، لم يذكره البخاري بجرح ولا تعديل (التاريخ 6/337) ومثله ابن أبي حاتم (الجرح والتعديل 6/ 235) . وذكره ابن حبان في (الثقات 5/ 172) وذكره الحافظ وقال: قال ابن أبي حاتم عن أبيه: "أخطأ في عمرو بن سلمة حيث جمع بينهما، ذاك جرمي، وهذا همداني". ثم قال: "وذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ... "الخ (التهذيب 8/42) ولي على هذا ملاحظتان: الأولى: ما خطىء فيه البخاري ليس وارداً فقد أفرد كل منهما بترجمة (التاريخ 6/313، 337) والثانية: أن المذكور في طبقات ابن سعد غير هذا (الطبقات 6/ 171) ومن هنا والله أعلم وقع الخطأ في التقريب حيث قال: ثقة (التقريب 260) .
9 إن صحت هذه الرواية فالقيام هنا ليس من باب التعظيم الذي ثبت النهي عنه. إنما هو من باب الاستعداد للمشي إلى الصلاة.
10 هذه المقولة تدل على عدم ثبوت الرواية والله أعلم، لأنه ليس من المعقول أن يذهب أبو موسى إلى المسجد للصلاة ثم خرج منه وهو يعرف فضل المبادرة إلى المسجد والسبق إلى الصلاة. ثم ليس من المعقول أن يرى منكراً ثم يقول ما رأيت إلا خيرا، ثم لا ينكر ذلك ويذهب ليأخذ رأي ابن مسعود أينكر أم لا؟. وقد كان أصحاب رسول الله أكثر الناس التزاماً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا رأي عنّ لي في المسألة. وانظر ما في تعليق (3، 6) وتعليق (2) الآتي.

الصفحة 39