كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

بنيان مرصوص ظنه لا ينفذ فيه شيء كانت قناعة ثانيهما بقوته وماضيه وتجاربه وأمنه في قلاعه وحصونه وغفلته عما جرى من وراء أسواره إغراء للأول بالإقدام على مباغتته وافتراسه ولكن كتانت تجارب الحروب الصليبية القديمة وحروب آل عثمان من الترك قد دلت دلالة قاطعة على أن مواجهة العالم الإسلامي بالانقضاض المسلح لا تجدي إلا انبعاث قوة متماسكة شديدة البأس والخطر خليفة أن تسترد شبابها مهما كان في كيانها من العيوب وسرعام ما تلم شعثها إلى معركة فاصلة كسائر المعارك الأولى التي ردت غزاة الصليبية على أعقابهم فكان من الحكمة إذن تجنب المواجهة وكان من حسن التدبير واتقاء العواقب أن تدور هذه القوة الجديدة الأوروبية من حول العالم الإسلامي تتنقصه من أطرافه البعيدة بمهارة وحذر حتى لا يرتاع قلب هذا العالم الغافل فينفض التراب عن ثيابه ويمسح النوم عن وجهه ودبت أوربة دبيبا حول هذا العالم وجعلت تطوق شواطئ القارة الإفريقية من الغرب إلى أن بلغت شواطئ الهند طوقته يومئذ بطوق من الثغور تحتلهاثم تنفذ من كل ثغر إلى بدن العالم الإسلامي شيئا فشيئا على حذر شديد وبلا ضجيج يزعج نعم كان هذا غزوا وكلكنه غزو خفي الوطء بعيد المرمى طويل الأجل لم يكن غزوا بالمعنى الذي كان الناس يعهدونه يومئذ أو الذي نعهده إلى اليوم لم يكن جيوشا وجحافل لها صليل يقعقع ونقع يثور فتدك في زحفها الحصون حصنا حصنا حتى تفرغ في الأرض كلها في شهر أو شهرين أو عام أو عامين كان غزوا أقل ما فيه نكاية هو الجيوش وأبلغة افتراسا هو التجارة وأفتكه بالإنسان هو التبشير وهذه الصورة لا يكاد يخطئها من كان له أدنى إلمام بتاريخ الغزو الأوروبي المسيحي للعالم الإسلامي.
وليس يعنينا هنا أن نتتبع تاريخ نكاية الجيوش وافتراس التجارة بل الذي يعنينا هو التبشير وفهم طبيعة التبشير وعمله أمر لابد منه لكل إنسان رأى بلاده نهبا ممزقا وأشلاء مقطعة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب ومن أبعد الغرب إلى أبعد الشرق لأنه أحد كتائب الغزو الجديد وأفتكها بالناس ولست هنا بصدد سرد تاريخ التبشير منذ قام البارون دي ويتز في سنة 1664 يدعو إلى تأسيس مدرسة جامعة تكون قاعدة لتعليم التبشير المسيحي وتعلم فيها لغات

الصفحة 149