الشرق لمن يناط بهم أمر التبشير فهذا يحتاج إلى دراسة مطولة وحسب المرء أن يرجع إلى ما ألفه المبشرون أنفسهم من كتب تاريخ التبشير ليعلم المناهج التي سار فيها حتى هذا اليوم ولكن ليس يحل لحد ممن يتعاطى النظر في أمور الناس في البلاد التي وقعت نهبا للغزو الأوروبي ان يغفل أمر التبشير ولا أن يتجاهل آثاره ولا أن يغضي الطرف عن وسائله لأنه هو في الحقيقة أقوى العوامل التي مكنت للاستعمار في بلادنا وجعلتنا في الحال التي نحن عليها من الضعف والتفكك والجهل بالأسباب الصحيحة التي تهيئ لنا مستقبلا كريما شريفا في هذا العالم وسأحأول أن أوضح الأمر ما استطعت في هذه العجالة التي لا تشفي غليلا.
فمن تمام الجهل أن يظن المرء أن معنى التبشير هو اقتصار فئة من الرهبان أو القسوس بالدعوة إلى دينهم من حيث هو عقيدة يسمعها المرء فيرضاها أو ينكرها فهذا أمر باطل أشد البطلان لا من حيث الواقع فحسب بل من حيث شرح المبشرون أنسهم معنى التبشير عندهم وهم الممارسون له وهم لذلك أدرى به وأشد بطلانا أن يتصور امرؤ أن التبشير بمعزل عن الغزو الحربي والغزو الاقتصادي والغزو الفكري والسياسي وعن محاولة الجنس الأوروبي المسيحي أن ضخع الأمم لسيطرة تدوم ما دامت له حضارة وأشد بطلانا منهما جميعا أن يخطر ببال أحد أن التبشير قد غاب عن كثير من الدعوات التي قام أصحابها ينادون بضروب من الإصلاح في بلاد العرب وفي بلاد الإسلام وفي غيرهما من البلاد وأنه لم يضع فيهما إصبعه ليحول معنى الإصلاح إلى معنى من التدمير والهدم والتحطيم.
ومن صدق النية واطلع على كتب المبشرين انفسهم عرف أن أكثر الحركات السياسية والاجتماعية قد لوثت بمكره الخفي وأنه لم يغب عن شيء من الحركات الوطنية أو القومية أو الثقافية أو الأدبية أو ما شئت بل كان من ورائها عاملا يقظا شديد الخفاء بليغ الأثر يتزي بكل زي على اختلاف الأمور لابسا لكل حالها لبوسها ومرسلا فيها أعوانه الذين قام على أمرهم دهرا طويلا حتى لا ينكشف أمرهم للغافلين عن دسائسه المدروسة المخططة الطويلة الأجل.