كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

العلم الأوروبي إلىت العربية وأن يؤلف بالعربية في هذه العلوم حتى يستغنى بعد قليل عن استجلاب الأساتذة الأوروبيين للمدارس الثانوية والعالية وهذا ما كاد يحدث فإن كثيرا من الكتب قد ترجم يومئذ إلى العربية في أنواع العلوم كالطب والهندسة والرياضيات والعلوم الحربية وطلع أيضا بمصر طباعة جيدة ولكن يظهر أن القناصل خوفوا هذا الطاغية الجرئ عقبي تيسير العلوم لطلابها من أبناء مصر ينشرها بلسانهم وزينوا له أن يقتصر على البعثات التي تدرس في الخارج فانتهى الأمر بأن حبست هذه الكتب في مخازن القلعة وحيل بين اللسان العربي ومتابعة العلم في ذلك العهد البعيد فكانت أول فجوة حدثت بين التعليم ولغة التعليم وصار المتخرج في البعثات يحسن لغة البلاد التي تعلم بها ويحسن التعبير بها في العلم الذي درسه ثم لا يحسن مثله في لغته التي ينتمي نسبة إليها وبعد قليل بدأت طلائع إرساليات التبشير تفد إلى مصر وتنشئ المدارس وتحدث في بيوت المسلمين وغير المسلمين صدعا كان يصعب اتقاؤه يومئذ لقلة المتنبهين إليه.
وظل الأمر يستشري ويزداد سوءا في أواخر عهد محمد عليّ إلى أن هبت رياح أوشكت أن توقظ الناس إلى نهضة صحيحة تبدأ من حيث ينبغي البدء وذلك عندما حدث ما دعا إلى إعادة فتح المدارس فيما بين سنة 1863 وسنة 1879 وما دعا إلى حركة إحياء بين أفراد أفذاذ من علماء الأزهر وما دعا إلى إنشاء مدرسة دار العلوم وابتدأت طلائع النهضة الصحيحة بما أشرت إليه من ظهور نابغة البيان في ذلك الزمان محمود سامني البارودي الذي رد الشعر العربي إلى شباب فقده في عصور متتابعة قعدت بالهمم فضربتها بالعجز والتسليم بأنها لا تطيق أن تبلغ حيث بلغ الأوائل فجاء هذا الرجل آية على إمكان ذلك وكان ذلك في حوالي سنة 1870 وبدأ موكب النهضة يسير ويتكاثر في مسيره وكاد الأمر يفلت وإذا أفلت الأمر من أيدي الغزاة يومئذ ونجت مصر في سنة 1882 من طغيان أسرة محمد عليّ وفسادها ومن احتلال الإنجليز بهزيمة عرابي لتغير تاريخ هذه المنطقة ولاحتفل السيل فجرف هذه المكايد الصغار التي كانت تكاد يومئذ ولطمست الفجوة التي كانت قد انشقت بين التعليم ولغة التعليم.

الصفحة 154