كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

"الدقة العلمية"، ويدعون "المنهج"، ويدعون ما شئت من الزيف الذى لا حدود له. فأنت إذا شئت أن تستقصى معنى "الرجعية" في كلام من يتكلمون ويهضبون ويثرثرون، وقعت في مثل "ردغة الحبال": من الخبرة في فهم المراد منها، (وردغة الخبال: الطين والوحل الكثيف، وهو يوم القيامة: عصارة أهل النار تنحل عنها جلودهم).
وقد رأيته من الخير أن أتتبع تاريخ هذه اللفظة، بقدر ما تحتمله ذاكرتى. وقد كنت خليقا، أو كانت هذه الأمة خليقة أن تعمد إلى الألفاظ المستحدثة، فتعرف تاريخ مجيئها إلى استعمال أهل اللسان العربى، ومن أول من استعملها؟ ولم استعملها؟ وفي أي غرض كانت تقال؟ وأى زيادة لحقت معناها الأول؟ وذلك لا يتم إلا بتتبع الصحف والكتب، واستخراج المواضع التي ذكرت فيها مؤرخة لا يتم إلا بتتبع والكتب , واستخراج المواضع التي ذكرت فيها مؤرخة. وإذا فعلنا ذلك عرفنا مصادر هذا اللفظ، وحددنا معانيه في زمن بعد زمن، وأدركنا أثر استعماله في تجلية المعانى، أو زيادتها غموضا وفسادا. ولكن هذا شئ لا أستطيع بيانه في أسطر قلائل، فمن الخير أن أنصرف عنه إلى ما أريد.
و"الرجعية" لفظ يألفه الناس اليوم، على غموضه المتلف للفهم، المؤدى إلى اختلاط الإدراك، الممهد لكل ذى هوى أن يبلغ إلى هواه باستعماله، لأنه يحمل معنى من معانى الفساد في مفهومه الغامض. ولكنى شهدت مولده قديمًا، فمن المفيد أن أسجل بعض تاريخه بلا تحيز، حتى يتحرى القارئ لنفسه إذا قرأه، ويتجنبه الكاتب الذى يريد الإفهام دون الإبهام.
كنا يومئذ في زمان صراع، وذلك منذ نحو من خمسين سنة، نشأت طفلا في صراع ثقافى وصراع اجتماعى، وصراع فكرى، وصراع دينى، وصراع سياسى. وكان لكل صراع طابعه وألفاظه وكتابه وجماهيره، قلت أو كثرت، وتمادت بى الأيام حتى عقلت، وذلك في مطلع الثورة التي شملت مصر والسودان في سنة 1919. وأظن أنه قد بقى في ذاكرتى شئ من الألفاظ التي كانت تدور في هذا الصراع الضخم، ولكنى لا أجد بينهما لفظ "الرجعية" ولا أعيه كان ظاهرا يومئذ، أي في سنة 1919 أو ما قبلها، إلا أن يكون شيئا نادرا لا يكاد يستقيم

الصفحة 400