كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

- 23 -
اللغة هي أداة التفكير، وأداة البيان، لا يكاد أحد يرتاب في أن هذا الحق، وانه واضح شديد الوضوح. ومن أجل أنه حق، تتلقاه بديهة العقل بالتسليم، ومن أجل أنه واضح، تستشعر النفوس أنه معنى سهل يسير قريب. بيد أن المتأمل يقف حائرا يتلدد (أى يتلفت يمينا وشمالا من حيرته وتبلده)، لأن هذه القضية على سلامتها ووضوحها، تنتهى إلى نتيجة معقدة أشد التعقيد. وذلك أن اللغة ألفاظ، وهذه الألفاظ مركبة في جمل، ومن الألفاظ والجمل، يخرج المعنى. والنظرة الأولى توجب أن يكون "اللفظ" محدود المعنى المفرد، وأن يكون التركيب محدود الوجوه الدالة التي تفضى إلى استحداث المعنى المركب الذى يراد إبلاغه السامعين أو القارئين.
ولكن، هل هذا صحيح؟ أصحيح أن "ألفاظ اللغة" محدودة المعانى حدا قاطعا واضحا في كل لسان , وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان؟ أو صحيح أيضا أن "تركيب ألفاظ اللغة" , أي الجمل وأساليبها المختلفة، محددة هي الأخرى تحديدا قاطعا واضحا في كل لسان, وفي كل زمن من أزمنة هذا اللسان؟ إن أقل التأمل يهدى إلى بطلان هذه النظرة الأولى بطلانا يفضى أحيانا إلى اليأس من قدرة اللغات على الإبانة، وإلى الشك كل الشك في القضية التي سلمت بها بديهة العقل , واستشعرت يسرها وسهولتها سرائر النفوس. ومعنى ذلك ادعاءنا أن اللغة هي أداة التفكير وأداة البيان, قضية غامضة، قضية موهمة، قضية إذا امتحنتها وجدتها غير مطابقة للواقع.
والناس، منذ كانوا لا يزالون يختلفون على معانى الألفاظ، يختلفون عليها وهم يستعملونها ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم، ويختلفون أيضا على الجمل المركبة من هذه الألفاظ، وهى تجرى مركبة على ألسنتهم في حال بعد حال، وفي

الصفحة 409