كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

حديث بعد حديث. ولم يمنعهم اختلافهم على معانى الألفاظ ودلالات الجمل من الأمرين جميعا: من أن يفكروا باللغة التي لا تستقر حدود ألفاظها ولا حدود جملها، ولا من الإبانة بهذه اللغة التي لا تستقر حدود ألفاظها ولا حدود جملها. بل لم يمنعم هذا الاختلاف أيضا من التفاهم بهذه اللغة التي لا تستقر حدود ألفاظها ولا حدود جملها. وهذا أمر معقد أشد التعقيد، يحتاج بيانه والفصل فيه إلى أبحاث قائمة برأسها، قد تكلم فيها الناس قديمًا وحديثا فأصابوا وأخطأوا، وبينوا غامضا، وزادوا البين منها غموضا.
ولست بصدد البحث في هذا الشأن , ولكنى قدمت القول فيه، ليكون جليا أن "الألفاظ"، لها خطر شديد، لأن البداهة توجب أن يكون "اللفظ" الذى نستعمله محدودا، فربما وقع المرء تحت سلطان هذه البداهة , فلم يلق بالا إلى هذا الأمر المعقد الذى يفضى إليه الواقع الذى تعيشه اللغات. فيستعمل "اللفظ"، أو يقرأه، ثم يفكر فيه تفكيرا متسما بالقصور عن إدارك هذه الحقيقة المفزعة، وهى حقيقة "الاختلاف" التي حدثت في جميع الألسنة، وفي جميع الأزمنة. ونعم، إن الناس قد خرجوا من هذا المأزق المحيط بالتفكير والبيان، بمحاولات جمة قاسية عنيفة، خاض العقل الإنسانى غمراتها، ليحمى وجوده من اليأس والشك، أي من العوامل المتفجرة في كيانه، المؤدية إلى تدمير ما جعله الله سببا مميزا بين الإنسان النامى وبين سائر الموجودات: من حى نام، ومن حى غير نام، أي من حيوان أعجم، وجماد مصمت. وهذا السبب المميز بين الإنسان النامى، وبين سائر الموجودات نامية وغير نامية، هو "البيان"، وهذا هو الذى بينه الله تعالى في محكم تنزيله، حيث من على عباده باعظم آلائه ونعمه فقال: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)} [الرحمن: 1 - 4]، فلولا "البيان"، لكان الإنسان خلقا غير هذا الخلق، ولولا قدرته على اجتياز محنة "البيان"، أي محنة اللغة التي لا تكاد تستقر حدود ألفاظها ولا حدود جملها، لوقع في دمار اليأس من اللغة وقدرتها على الإبانة عن نفسه، ولهوى في هوة الشك في هذه الأداة، وفي نفعها لما يريده من الإبانة عن معانيه.

الصفحة 410