كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

ومن البين , وأنا في شك من أنه بين لكل أحد، ولكن هكذا نقول! من البين أن الآمر لم يكن كذلك في أولية الإنسان منذ القدم البعيد. فالنظر يوجب أن يكون أول "البيان"، أي أول اللغة التي يبين بها الناس عما في أنفسهم، مضبوطا صحيح الحدود ظاهرها، لا يكاد يكون فيها اختلاف يذكر، ثم يتوارث اللغة جيل بعد جيل، يستخدمها لمعان متجددة بتجدد إدراك النفس المبينة لأسرار ما يحيط بها يوما بعد يوم، فتحملها إرادة البيان عن جديد ما انفتح لها، على أن تتخير "لفظا" تركبه في جملة، لتمنح هذا اللفظ طرفا من المعنى الجديد، يلحق معناه الأول، ويزيد فيه مالم يكن ن ثم يمضى "اللفظ" في اللغة مركبا، حتى ينفصل عن التركيب الذى أحدث له معنى لم يكن فيه، ثم يستقل بعد حاملا معنى زائدا، مركبا من المعنى الأول، والمعنى الجديد.
وهذا أشبه شئ بما نسميه في العربية "المجاز"، أي اجتياز معنى حادث إلى معنى قديم في اللفظ. وتكثر المعانى الحادثة، وتتلاحق على اللفظ الواحد، فربما انتهى الأمر إلى "لفظ" تراكمت عليه معان حادثة متجددة، تجمع بينها روابط قريبة المنال، وروابط بعيدة المطلب، ولكن "اللفظ" يبقى لفظا كسائر ألفاظ اللغة , يتكلم الناس به , ويستعملونه في بيانهم، ولكن ينشأ الغموض والإبهام، من عدم القدرة على بلوغ كنه هذه الروابط القريبة البعيدة، وينشأ فساد النظر في الفكر من استخدامه هذا "اللفظ" أداة للتفكير، تبعا لقصور القدرة عن بلوغ كنه هذه الروابط التي تشد معانيه القديمة والحادثة بعضها إلى بعض شدا محكما، للدلالة على معنى مركب تكون له في الذهن صورة جامعة.
وهذه الصورة الجامعة، هي منشأ كل اختلاف في اللغة، وكل اختلاف في الفهم , وكل اختلاف في التفكير. فأذا بدأ المرء يفكر مستخدما لفظا ينطوى على صورة جامعة , وعرض له في إدراك هذه الروابط عارض من الوهم, أو من سوء التقدير، أو من إساءة فهم الروابط، أو من تغليب بعض المعانى الحادثة فيه على بعض، أو مما شئت من وجوه أخرى كثيرة = كان تفكيره مهددا بسلوك طريق غريبة بحره إليها بعض ما بنى عليه تفكيره وعلى قدر ما يعرض له من الوهم أو سوء

الصفحة 411