كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

التقدير أو إساءة فهم الروابط، أو تغليب بعض المعانى الحادثة فيه على بعض، يحدث له انحياز إلى جانب من الفكر، لم يكن لينحاز إليه إذا هو برئ من ذلك براءة تامة, أو برئ من بعضه براءة مشوبة بالنقص. وعلى مثل ذلك يكون شأن الذى يتلو كلاما ويحاول أن يفهمه , أو يحاول أن يفسره، فهو عرضة للانحياز إلى جانب من الفهم أو التفسير، يزيد وينقص على قدر مبلغة من كنه الألفاظ التي يحاول أن يفسرها أو يفهمها , ولا سيما إذا تضمن الكلام ألفاظا تنضم على صورة جامعة.
وإلى هذا الباب يرجع أكثر ما تجد من افتراق الفرق في الملل التي دان بها الناس, وأكثر ما نشأ من المذاهب المتباينة مع انتمائها إلى أصل واحد تصدر عنه , وأكثر ما يعرض لمفسرى النصوص من الاختلاف الغريب المتناقض، حين يحاولون حل الإسكان بالتأويل. فالإشكال عندهم ينشأ من القصور عن بلوغ كنه الألفاظ ذوات الصور الجامعة , فيحتاجون إلى تأويل هذه الألفاظ تأويلا يناسب ما عند كل منهم من قدر من القصور. فأذا قل القدر، خف التأويل , وإذا غلا قدر القصور, أفضى إلى غلو في التأويل.
وقد عرضت في مقالاتى هذه لبعض الألفاظ ذوات الصور الجامعة، فأقربها ما ذكرته في المقالة السالفة من معنى "الثقافة" ومعنى "الرجعية" ص: 399 وص:404. ومن قبل ما عرضت في المقالة التاسعة إلى أربعة ألفاظ من ألفاظ النصارى, وهى "الخطيئة" و "الخلاص"، و "الفداء"، و "الصلب"، ص: 166، وعرضت في المقالة الثانية عشرة لمعنى "النبوة"، ص: 222, وأن مفهومها عندنا نحن المسلمين، مباين لمفهومها عند أهل الكتابين من اليهود والنصارى. وفي جميع ذلك حاولت جهد طاقتى أن أجعل تعبيرى مطابقا لما أعتقده من الحق، دون أن أغفل عن هذه الحقائق التي أشرت إليها آنفا. بل إن مدارستى لخبر "راهب دير الفاروس" الذى ذكره القفطى في اخبار شيخ المعرة، إن هو إلا تطبيق كامل لكل ما ينشأ عن ألفاظ اللغة من الاختلاف , وما ينشق عن اختلافها من أوهام., وما يستخرجه المستخرج منها من المعانى , على قدر معرفته باللغة أولا، وعلى قدر أمانته في الفهم ثانيا، وعلى قدر ما يكون عنده من العقل أو الخبل

الصفحة 412