- 24 -
أيحسن بالكاتب أن يشكو نفسه إلي قرائه؟ وسواء كان ذلك مما يحسن به أو مما لا يحسن به فإني لشاك نفسي إلي القراء. فأنا حين أتهيأ للكتابة يخيل إلي أن الموضوع قد استقر في نفسي واستوى، وأن الوجه قد استبان واستتبت لي مذاهبه وعندئذ أكون كالذي يري جنة مترامية الأطراف من المنظر الأعلى (أي عن بعد، من مكان عالٍ)، كأنها زويت لي في رقعة يحيط بها البصر، فيرى أفنان شجرها، وتناوير أثمارها، وتخاريجَ ألوانها (أي تداخل ألوانها وتخارُجَهَا من لون إلي لون)، ولألاء جداولها، ومسارب طرقها، ومَدَبَّ حَصَّبائها، بل أكاد أشم شذاها وعرفها وعطرها. فإذا أخذت مكاني وأمسكت القلم، وبدأت أكتب فكأني قد انحدرت من سماء مَرْقَبتي، وأفضيت إلي سوادها، وأجدني وقعت على حواشي حَرَجةٍ مظلمة الجوانب، (والحَرَجَةُ الشجر المجتمع الملتف لا يقدر أخد أن ينفذ فيها)، وإذا تلك المعالم التي كانت منذ قليل بينة مقسمة لا يضل فيها بصري قد انطمست، فأذهب أتحسس منفذا في سوادها المحدق بها بتغي لنفسي مدخلا فإذا وجدته فمن قبله تأتي البلوي فأنا عندئذ يستخفني الفرح بهذا المدخل الذي اهتديت إليه بعد طول الضلال عنه ويغرني ما كنت فيه من طمأنينة الإحاطة بمشاهدها من ذلك المنظر الأعلى وينشب في وهمي أني قادر على أن أسلك فيها طرقا واضحا بقدمي كما كنت أسلكها من مرقبتي بالبصر المشرف وإني قادر أيضا على أن أحيط بنعت هذه الجنة في لحظات كما كان بصري يحيط بها في لمحة خاطفة ولكن ما أضيع المرء بين النعت والبصر! وأَلِجُ المدخل على ثقة ويؤدي بي المدخل إلي منظر غير المنظر وأسير في مسارب أراها كأنها غير المسارب التي كانت تلوح لعيني وأجد شذا غير الشذا الذي كنت أستروح، ويفتنني الحاضر القريب عن غائب يتباعد كلما أوغلت المسير في حُرِّ ثَرَاها.