كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

- 25 -
ما دامت قد عزمت أن أرتكب الكلام في شئ لم أكن أحب أن أدانيه فلأرتكب بعض ما لا أحب من الحديث عن فترة من عمري يسوغ لي الحديث عنها ما أجد فيها من العبرة ولأنها كانت محنة أوقد على نارها نظام التعيلم في بلادنا ووقوع هذا النظام تحت سلطان المستعمرين والمبشرين حقبة لا تزال ممتدة في حياتنا إلي هذا اليوم ولا تزال آثارها تستشري عاما بعد عام حتي كأن أصابع ذلك الرجل اللعين لم تزل حية ممسكة بالزمام وهو رمة بالية تحت الثرى!
فمنذ بدأت أعقل بعض هذه الدنيا وأري سوادها وبياضها بعين باصرة شغلتني الكلمة وتعلق قلبي بها لأني أدركت أول ما أدركت أن الكلمة هي وحدها التي تنقل إلي الأشياء التي أرها بعيني وتنقل إلي أيضا بعض علائقها التي تربط بينها والتي لا أطيق أن أراها بعيني وكان هذا إدراكا مبهما لا تستطيع طفولتي يومئذ أن تستبيه كل الاستبانه ولكني لا أزال أذكر لمحا كالوميض يلوح ويخفي من عهد أول طفولتي إذ كنت أسمع من كان في بيتنا حين يتحدثون بطلاقة وذلاقة لا يطيق مثلها لسان غض قريب عهد بصمت الفولة الطويل وبعجزها المتلهف إلي الإبانة وبنزاعها الدائب إلي محاكاة الكبار ثم قذف بي أبي رحمة الله عليه إلي المدرسة فلا أزال أذكر أول ساعة دخلتها ولا أزال أذكر ذلك الرعب الذي فض نفسي وهالني حين صك سمعي ذلك الصوت الميهم البغيض إلي منذ ذلك الحين صوت جرس صوت مصلصل مؤذ جاف أبكم أعجم لا معني له وإذا هو غل يطوقني ويشل إرادتي رنين منكر سري بالفزع في نفسي وردد الوجيب الوخاز في قلبي كدت أكره المدرسة من يومئذ من جراء هذا الجرس الأعجمي الخبيث وبعد قليل عرفت أن أكثر لِدَاتي في المدرسة قد وجدوا من صوته المستبشع مثل الذي وجدت ولو كنت أملك من أمر الناس

الصفحة 445