الرياضيات آثرت ما كنا نسميه القسم العلمي ونفرت من القسم الأدبي وجعل حبي للرياضيات يغلو ثم يغلو حتي نلت شهادة البكالوريا يومئذ ولكن الذي أدركته وأنا في حومة هذا النزاع الغامض في أحناء نفسي أن اللغة العربية كما كانوا يسمونها وكأنها لغة أجنبية كانت تنال من قلة احتفال الطلبة بها في واستهزائهم بدرسها ما يفزع المتأمل وكان هذا الإدراك وطول انغماسي في شؤون السياسة التي كنا ننغمس فيها يومئذ انغماس من لا حياة له إلا فيها قد نفذا في سر نفسي يرجانها رجا شديدا وأحاطت بي الحيرة أين أذهب وكانت الجامعة قد أنشئت في تلك السنة فاختار لي أبي ما اختاره اتجاهي إلي القسم العلمي ولكني انتبهت فجأة إلي نفسي فأبيت ما اختاره اتجاهي إلي القسم العلمي وما أختاره أبي وأبيت إلا أن ألتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية دون زملائي في الدراسة الثانوية جميعا لقد انفتحت لي الأبواب المغلقة على إحساسي القديم بخطر الكلمة فإذا هي التي تفتح بصيرتي فتري وتبصر مالا يدركه البصر وما لا يقع عليه الحس وعلمني كتاب سيبويه يومئذ أن اللغة هي الوجه الآخر للرياضيات العليا ومن يومئذ صارت الكلمة عندي هي الحياة نفسها هي نفسي هي عقلي هي فكري هي سر وجودي ووجود ما حولي.
كنت يومئذ قد كدت انتهي من محنتي بالمستعمرين والمبشرين وانكشف لي يومئذ أن العالم الإسلامي العربي كان عالما مهددا بالتدمير من عالم أوربي مسيحي ماكر شديد البطش والصولة والخبث وانبعث في قلبي عداوة هؤلاء الغزاة اللئام الفجرة وزادتني عداوتهم شراسة على شراستي التي فطرت عليها وكنت أيضا قد أدركت بعض ما وقع في نفسي من التدمير الذي أحدثته مدارس دنلوب التي تعلمت فيها وعلمت علما يقينا أن نظام دنلوب لم يكن نظاما يراد به تخريج موظفين كما كان يحلو للعامة وأشباه العامة أن يقولوا ولا يزال يحلو لهم إلي اليوم أن يقولوه وينفثوه في الصحف والمجلات والمجالس والأحاديث بل عسي أن يكون الأشبه أن دنلوب وأعوانه هم الذين حرصوا على تصوير هذا النظام بهذه الصورة لتخفي حقيقة الهدف الذي من أجله وضع الخبيث دنلوب نظامه هذا.
علمت يومئذ أن دنلوب أراد بنظامه هذا أن يضلل أمة عن طريقها الذي ينبغي أن