كتاب أباطيل وأسمار (اسم الجزء: 1)

عن أعين أقرب الناس إليه فلا يراه أحد شاربا أو آكلا كما لم ير أحد نعاما يرد ماء لأن النعام يجتزي بالرطب عن الماء طول حياته والرطب بضم اراء وسيكون الطاء العشب الأخضر.
فلما راعه ما راعه من موت أبيه ونفره بعد قرار مطمئن قد ألفه أنسته نفرة القلق أمه وحدبها عليه ورأى نفسه قد استوى رجلا في الخامسة والثلاثين من عمره أي سنة 398 هـ فأخذه ما أخذه حتى عزم على ارحلة إى بغداد، فركب رأسه ورحل مفارقا أمة وأقام في بغداد حتى سنة 400 هـ فعاد راجعا إلى معرة النعمان وإلى أمه فإذا هي قد دعيت فأجابا فيكتب إى خاله أخي أمه أبي القاسم عليّ بن سبيكة رسالة ينضح صدرها فجيعة حتى يقول لو لم تكن الآجال زبرا أي مكتوبة لوجب أن أقتل صبرا اصبر حبس الرج على القتل حتى يقتل على أني واله قد أعلمتها أني مرتحل وأن عزمي على ذلك جاد مزمع فأذنت فيه وأحسبها ظنته مذقه الشارب المذقة الكذبة والشارب الكاذب ووميض الخالب برق السحاب بلا مطر ولكل أجل كتاب وحزني لفقدها كنعيم أهل الجنة كلما نفد جدد.
فأي فجيعة يحسها العربي (وأين العربي!) وهو يقرأ هذه الأحرف الممزوجة بالدمع المتحدر على وجنتي الشيخ بلا نشيج أو صخب وأستغفر الله كيف أفسر هذا لأستاذ جامعي قدموس أي قديم وندع هذا لما نحن فيه وذلك أن أبا العلاء وهو في الخامسة والثلاثين من عمره لما عزم على الرحلة إلى بغداد أعلم أمه أنه مرتحل عنها وأنه قد جمع عزمه على ذلك جاد غير هازل وأستأذنها فأذنت له ولكنه لم يكن منها إذنا على الحقيقة بل كان صرفا له عن إيذائها بسماع ما يقول من ذلك ويزعم وإسكاتا لهذا المعاود لطلب الإذن بإلحاح متتابع وظنت أمه حين صرفته عنها بالإذن له في الرحلة أنه لن يفع ما يقول لعلمها بعجزه عن أن يحفظ أمر نفسه في مطعمه ومشربه لأول مرة بين الغرباء وهو اذي بقى في حضانتها إلى أن بلغ الكهولة وارتقت به السن هي تطعمه وتسقيه في خلوة وتقوم بكل شأن من شؤونه وتصرف عنه أعين الناس وما عسى

الصفحة 61