أبيه الذي بقى يرعاه إلى سنة 395 هـ كما بين هو في شعره بأشد حياطة وإشفاق وكانت أمه أشد حدبا على ضرير عاجز بنفسه قادر بغيره فظلت تقوم على خاص شأنه حتى لا تراه عين من صميم أهله فتنكر من مطعمه أو مشربه شيئا فتستخف به أو تهزأ وأنه ظل في كفالتها كأنه رضيع حتى ركب رأسه بعد وفاة أبيه فجعل يلح عليها مستأذنا في الرحيل إلى بغداد ويبدي لها أنه عازم وهي تحسبه كاذبا فيما يقول لعلمها بضعفه وحيائها وحبه أن يستر خاص أمره عن كل عين قريبة فما ظنك بالعين الغريبة؟
فأنا أسال مرة أخرى سؤالا جامعا هل يمكن أن يكون أبو العلاء قد رحل منفردا إلى راهب دير الفاروس أو مع رفيق في حياة أبيه القاضي وفي حياة أمه في نحو سنة 375 - 377 هـ وهذه كله حاضر في ذهن من يريد أن يجيب بنعم أولا وأتولى أن الأجابة فأقول لا هذا أمر فوق المقطوع باستحالته عند من يعقل فأبو العلاء إذن لم يرحل قط إلى طرابلس لا في صباه ولا في شبابه ولا في كهولته ولم يجتز بدير الفاروس ولم ينزل به البتة ولم يلق راهبا يشدو شيئا من علوم الأوائل فيسمع منه أبو العلاء كلاما من أوائل كلام الفلاسفة وقد أسلفت في الكلمة الماضية أنه لم يقل شعرا في صباه يتضمن شكوكا توجب عليه الاعتذار منها والبراءة.
وتبقى طريفة من الطرائف في هذا الخبر لا أكلف الدكتور لويس عوض عبء استنباطها فأستنبطها أنا له والأمر لله فأنا أقرأ كلام القفطي وغير القفطي وأنا أزعم أني أعرف هذه العربية التي ارتضعناها من أثداء أمهاتنا منذ عهد أبينا إسماعيل عليه السلام فبقى في دمائنا منها نبض لا يكاد يخطيء بعد الدربة والممارسة ففى هذا الخبر جملة تدل على واضع الخبر من أي الطبل خو أي أي الناس هو مرة أخرى فنحن نقرأ كتاب القفطي جميعه ولا نكاد نجد لها مثيلا في الركاكة والسقم في كتابه كله وإذا كان القفطي لم يسند الخبر إلى كتاب ولا نسبة إلى رجل معروف من أهل العلم والرواية فإني أراه نكرة كما أسلفت لخبث مخرجه