كتاب السيرة النبوية لابن كثير (اسم الجزء: 1)

وَلكنه لَا يدمج الاحاديث والاخبار بَعْضهَا فِي بعض، بل يحْتَفظ لكل نقل بطابعه ومكانه، وَكَثِيرًا مَا يعوزه التَّرْتِيب فِي النَّقْل، فَلَا ينسق الاخبار الَّتِى ينقلها حَتَّى تكون وحدة منسجمة فأحيانا يبْدَأ بالْخبر المطول، ثمَّ يذكر بعده أَخْبَارًا تحتوى على جَانب من هَذَا الْخَبَر أَو تكرره 5 - فَإِذا تتبعنا نقُول ابْن كثير عَن غَيره وجدنَا فِيهَا ظَاهِرَة عَجِيبَة..هِيَ: أَنه يكَاد لَا يلْتَزم نَص أَي شئ يَنْقُلهُ..! فنقوله عَن ابْن إِسْحَاق أغلبها
بِالْمَعْنَى، وَقد تتبعت ذَلِك فِي بعض الصفحات، وَرَأَيْت أَن إِثْبَات الفروق بَين ابْن كثير وَابْن إِسْحَاق شئ يطول مداه، فَابْن كثير يقدم وَيُؤَخر وَيزِيد وَينْقص، ويغير ويبدل ويفوت بِهَذَا التَّغْيِير والتبديل كثير من جمال عبارَة ابْن إِسْحَاق وتناسقها كَذَلِك نجد رِوَايَات ابْن كثير للاحاديث تخْتَلف بعض الِاخْتِلَاف عَمَّا فِي أيدى النَّاس من الْكتب الَّتِى ينْقل ابْن كثير عَنْهَا.
فأحاديث البُخَارِيّ الَّتِى يَرْوِيهَا ابْن كثير بقوله: (وَقَالَ البُخَارِيّ) لَا تنطبق حرفيا مَعَ صَحِيح البُخَارِيّ الذى بِأَيْدِينَا.
كَذَلِك القَوْل فِي رِوَايَته عَن صَحِيح مُسلم وَعَن مُسْند أَحْمد وَعَن دَلَائِل النُّبُوَّة لابي نعيم وَعَن دَلَائِل النُّبُوَّة للبيهقي، وَعَن الشفا للقاضى عِيَاض وَعَن الرَّوْض الانف لِلسُّهَيْلِي ... تكَاد لاتجد خَبرا مطابقا بِحُرُوفِهِ لما فِي الْكتب المتداولة، فَلَا يَخْلُو الامر من تَغْيِير أَو نقص أَو اخْتِصَار.
وَحين نقف أَمَام هَذِه الظَّاهِرَة نبحث عَن أَسبَابهَا فَإِن هُنَاكَ أحد احْتِمَالَيْنِ:
غَسَّانَ.
وَأَمَّا شِقٌّ فَهُوَ ابْنُ صَعْبِ بْنِ يشْكر بن رهم بن أفرك بن قيس (1) بن عبقر ابْن أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَنْمَارُ بْنُ أَرَاشِ بْنِ لَحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْث بن نابت (2) بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ.
وَيُقَالَ إِنَّ سَطِيحًا كَانَ لَا أَعْضَاءَ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مِثْلَ السَّطِيحَةِ، وَوَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ انْتَفَخَ وَجَلَسَ.
وَكَانَ شِقٌّ
نِصْفُ إِنْسَانٍ، وَيُقَالَ إِنَّ خَالِدَ بْنَ عبد الله القسرى كَانَ من سُلَالَتَهُ.
وَذَكَرَ السُّهَيْلِيُّ أَنَّهُمَا وُلِدَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ مَاتَتْ طَرِيفَةُ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيَّةُ، وَيُقَالَ إِنَّهَا تَفَلَتْ فِي فَمِ كُلٍّ مِنْهُمَا فَوَرِثَ الْكِهَانَةَ عَنْهَا، وَهِيَ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكَ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التَّبَابِعَةِ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ وَفَظِعَ بِهَا (3) ، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبَرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا.
فَقَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْكَ بِتَأْوِيلِهَا.
فَقَالَ: إِنِّي إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ بِتَأْوِيلِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا.
فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: فَإِنَّ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى شِقٍّ وَسَطِيحٍ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ.
فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا، فَقَدِمَ إِلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي وَفَظِعْتُ بِهَا، فَأَخْبِرْنِي بِهَا، فَإِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَهَا أَصَبْتَ تَأْوِيلَهَا.
فَقَالَ أفعل.
رَأَيْت
__________
(1) فِي ا: قسر.
(2) وتروى: نبت، كَمَا فِي الِاشْتِقَاق لِابْنِ دُرَيْد (3) فظع بهَا: اشتدت عَلَيْهِ.
(*)

الصفحة 15