كتاب السيرة النبوية لابن كثير (اسم الجزء: 1)
قُلْتُ: وَفِي عَامِهَا وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِسِنِينَ، كَمَا سَنَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ مِنَ الْأَشْعَارِ فِي هَذِهِ الْكَائِنَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي نَصَرَ اللَّهُ فِيهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ، الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يُشَرِّفَهُ وَيُعَظِّمَهُ، وَيُطَهِّرَهُ وَيُوَقِّرَهُ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يُشْرَعُ لَهُ مِنَ الدِّينِ الْقَوِيمِ، الَّذِي أَحَدُ أَرْكَانِهِ الصَّلَاةُ بَلْ عِمَادُ دِينِهِ، وَسَيَجْعَلُ قِبْلَتَهُ إِلَى هَذِهِ الْكَعْبَةِ الْمُطَهَّرَةِ، وَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ نُصْرَةً لِقُرَيْشٍ إِذْ ذَاكَ عَلَى النَّصَارَى الَّذِينَ هُمُ الْحَبَشَةُ، فَإِنَّ الْحَبَشَةَ إِذْ ذَاكَ كَانُوا أَقْرَبَ لَهَا مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، وَإِنَّمَا كَانَ النَّصْرُ لِلْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَإِرْهَاصًا وَتَوْطِئَةً لِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا قَالَهُ عَبْدُ الله بن الزِّبَعْرَى السهمى: تنكلوا (1) عَنْ بَطْنِ مَكَّةَ إِنَّهَا * كَانَتْ قَدِيمَا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا لَمْ تُخْلَقِ الشِّعْرَى لَيَالِيَ حُرِّمَتْ * إِذْ لَا عَزِيزَ مِنَ الْأَنَامِ يَرُومُهَا سَائِلْ أَمِير الْحَبَش (2) عَنْهَا مَا رَأَى * فَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا سِتُّونَ أَلْفًا لَمْ يَئُوبُوا أَرْضَهُمْ * بَلْ لَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا كَانَتْ بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ * وَاللَّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيِّ الْمَدَنِيِّ: وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْمَ فِيلِ الْحُبُو * شِ إِذْ كُلَّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ (3) مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ * وَقَدْ شَرَمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ (4) وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا * إِذَا يَمَّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ (5) فَوَلَّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ * وَقَدْ بَاءَ بِالظُّلْمِ مَنْ كَانَ ثمَّ
__________
(1) رويت أَيْضا: تنكبوا بِالْبَاء.
وَمَعْنَاهَا على كلا الرِّوَايَتَيْنِ: انصرفوا وَارْجِعُوا خوفًا وهيبة.
(2) ابْن هِشَام: أَمِير الْجَيْش.
(3) رزم: أَقَامَ فِي مَكَانَهُ لم يَتَحَرَّك.
(4) الاقراب جمع قرب بِضَمَّتَيْنِ، وَهُوَ الخاصرة، أَو من الشاكلة إِلَى مراق الْبَطن.
(5) المغول: سكين كَبِيرَة.
(*)
الصفحة 39