كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 1)
(فَصْلٌ): إِذَا لَمْ تَجِدِ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ، وَلَا فِي السُّنَّةِ، وَلَا وَجَدْتَهُ عَنِ الصَّحَابَةِ، فقد رجع كثير من الأئمة إلى اقوال التابعين ك (مجاهد بْنِ جَبْرٍ) فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفْسِيرِ فقد قَالَ: «عرضتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ، أُوقِفُهُ عِنْدَ كل آية منه وأسأله عنها».
ولهذا قال (سفيان الثوري): إِذَا جَاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ مُجَاهِدٍ فحسبُك بِهِ ... وك (سعيد بن جبير) و (عكرمة مولى ابن عباس) و (عطاء بن أبي رباح) و (الحسن البصري) و (مسروق بن الأجدع) و (سعيد بن المسيب) و (قتادة) و (الضحاك) وغيرهم من التابعين وَمَنْ بَعْدَهُمْ، فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ في عبارتهم تباينُ فِي الْأَلْفَاظِ، يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عنده اختلاقا فيحكيها أقوالاً، وليس كذلك فليتفطن اللبيب لذلك والله الهادي.
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ، أَوْ بِمَا لاَ يَعْلَمُ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» (رواه ابن جرير بسنده عن ابن عباس وأخرجه الترمذي والسائي) ولقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَالَ فِي كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فقد أخطأ (رواه أبو داود والترمذي والنسائي)» أَيْ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمر بِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ، كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النار، وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ ما لا علم لهم به، فقد روي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال: «أيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي، وأيُّ أرضٍ تُقِلُّنِي، إِذَا أَنَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ».
وروى أنس عن عمر بن الخطاب أنه قرأ على المنبر {وفاكهة وأبَّا} فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الأبَّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لهو التكلف يا عمر.
وروى ابن جرير بسنده عن عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: لَقَدْ أَدْرَكْتُ فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونِ الْقَوْلَ فِي التَّفْسِيرِ، وعن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: مَا سمعتُ أَبِي يؤول آية من كتاب الله قطُّ، وسأل محمدُ بن سيرين (عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيَّ) عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: ذهب الذين كانوا يعلمون فيمن أُنزل القرآن، فاتق الله وعليك بالسداد.
فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلهم عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنِ الْكَلَامِ فِي التَّفْسِيرِ بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ فيه، فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ، وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفْسِيرِ، وَلَا مُنَافَاةَ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ، وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تكتمونه} ولما جاء في الحديث الشريف «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ يَوْمَ القيامة بلجام من نار» (أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة)
الصفحة 13
650