كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 1)
أَيْ وَاذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ فِي كَفِّي إِيَّاهُمْ عَنْكَ حِينَ جِئْتَهُمْ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَرِسَالَتِكَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ،، فَكَذَّبُوكَ، وَاتَّهَمُوكَ بِأَنَّكَ سَاحِرٌ، وَسَعَوْا فِي قَتْلِكَ وَصَلْبِكَ، فَنَجَّيْتُكَ مِنْهُمْ، وَرَفَعْتُكَ إِلَيَّ، وَطَهَّرْتُكَ مِنْ دَنَسِهِمْ، وَكَفَيْتُكَ شَرَّهُمْ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِامْتِنَانَ كَانَ مِنَ اللَّهِ إِلَيْهِ بَعْدَ رَفْعِهِ إِلَى السماء، أَوْ يَكُونُ هَذَا الِامْتِنَانُ وَاقِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِصِيغَةِ الْمَاضِي دَلَالَةً عَلَى وُقُوعِهِ لَا مَحَالَةَ، وَهَذَا مِنْ أَسْرَارِ الْغُيُوبِ الَّتِي أطلع الله عليها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم. وقوله: {وإذا أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَيْهِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ جَعْلَ لَهُ أَصْحَابًا وَأَنْصَارًا، ثُمَّ قِيلَ: إن المراد نبهاذ الوحي وحي إلهام كما قال تَعَالَى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الْآيَةَ، وهو وحي إلهام بلا خلاف، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الجبال بُيُوتاً} الآية، وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}، أَيْ أُلْهَمُوا ذَلِكَ فَامْتَثَلُوا ما أهلموا، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ ذَلِكَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ ذَلِكَ، ويحتمل أن يكون المراد: وإذا أَوْحَيْتُ إِلَيْهِمْ بِوَاسِطَتِكَ فَدَعَوْتَهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وبرسوله، واستجابوا وَانْقَادُوا وَتَابَعُوكَ، فَقَالُوا: {آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}.
- 112 - إِذْ قَالَ الحواريون يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ
- 113 - قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ
- 114 - قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ
- 115 - قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ
هَذِهِ قِصَّةُ الْمَائِدَةِ، وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ السُّورَةُ، فَيُقَالُ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، وَهِيَ مِمَّا امْتَنَّ اللَّهُ بِهِ عَلَى عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ عِيسَى لما أجاب دعاءه بنزولها، فأنزل الله آية بَاهِرَةً وَحُجَّةً قَاطِعَةً، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ أن قصتها ليست مذكروة فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا يَعْرِفُهَا النَّصَارَى إِلَّا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ} وَهُمْ أَتْبَاعُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ}: هَذِهِ قراءة كثيرين، {أَنْ يُنْزِلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} وَالْمَائِدَةُ هِيَ الْخِوَانُ عَلَيْهِ طَعَامٌ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُمْ إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهما مائدة كل يوم يقتاتون بها، وَيَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْعِبَادَةِ {قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أَيْ فَأَجَابَهُمُ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَائِلًا لَهُمُ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تَسْأَلُوا هَذَا فَعَسَاهُ أَنْ يَكُونَ فِتْنَةً لَكُمْ، وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللَّهِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ {قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا} أَيْ نَحْنُ مُحْتَاجُونَ إِلَى الْأَكْلِ مِنْهَا {وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا} إِذَا شَاهَدْنَا نُزُولَهَا رِزْقًا لَنَا مِنَ السَّمَاءِ {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أَيْ وَنَزْدَادَ إِيمَانًا بِكَ وَعِلْمًا بِرِسَالَتِكَ {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} أَيْ وَنَشْهَدُ أَنَّهَا آيَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَدَلَالَةٌ وَحُجَّةٌ عَلَى نُبُوَّتِكَ وَصِدْقِ مَا جِئْتَ بِهِ، {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً
الصفحة 562