كتاب مختصر تفسير ابن كثير (اسم الجزء: 1)
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ أَيْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْبِشَارَاتِ بِكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}، كَقَوْلِهِ: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يقرأون الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} وَهَذَا شَرْطٌ، وَالشَّرْطُ لَا يَقْتَضِي وُقُوعَهُ، وَلِهَذَا جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا أَشُكُّ وَلَا أَسْأَلُ»، وقوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً}، قَالَ قَتَادَةُ: صِدْقًا فِيمَا قَالَ، وَعَدْلًا فِيمَا حَكَمَ، يَقُولُ: صِدْقًا فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلًا فِي الطَّلَبِ، فَكُلُّ مَا أَخْبَرَ بِهِ فَحَقٌّ لَا مِرْيَةَ فِيهِ، وَلَا شَكَّ، وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ الْعَدْلُ الَّذِي لَا عَدْلَ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَبَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَا يَنْهَى إِلَّا عن مفسدة، كما قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} إلى آخر الآية، {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} أَيْ لَيْسَ أَحَدٌ يُعَقِّبُ حُكْمَهُ تَعَالَى لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ {وَهُوَ السَّمِيعُ} لِأَقْوَالِ عِبَادِهِ {الْعَلِيمُ} بِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ الَّذِي يُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ.
- 116 - وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
- 117 - إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ بَنِي آدَمَ أَنَّهُ الضَّلَالُ كَمَا قَالَ تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أكثر الأولين}، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} وَهُمْ فِي ضَلَالِهِمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُمْ فِي ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ وَحُسْبَانٍ بَاطِلٍ {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ}، فَإِنَّ الْخَرْصَ هُوَ الْحَزْرُ وَمِنْهُ خَرْصُ النَّخْلِ وَهُوَ حَزْرُ مَا عَلَيْهَا مِنَ التمر، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته {هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ} فَيُيَسِّرُهُ لِذَلِكَ، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فَيُيَسِّرُهُمْ لِذَلِكَ وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ.
- 118 - فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ
- 119 - وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ
هَذَا إِبَاحَةٌ من الله لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَأْكُلُوا مِنَ الذَّبَائِحِ مَا ذُكِرَ عَلَيْهِ اسْمُهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ مَا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا كان يستبيحه كفار قريش مِنْ أَكْلِ الْمَيْتَاتِ وَأَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ نَدَبَ إِلَى الْأَكْلِ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} أَيْ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وَوَضَّحَهُ {إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أَيْ إِلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَكُمْ مَا وَجَدْتُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى جَهَالَةَ الْمُشْرِكِينَ فِي آرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ مِنِ اسْتِحْلَالِهِمُ الْمَيْتَاتِ وَمَا ذُكِرَ عَلَيْهِ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ: {وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} أَيْ هُوَ أَعْلَمُ بِاعْتِدَائِهِمْ وَكَذِبِهِمْ وافترائهم.
الصفحة 611