كتاب نيل الأوطار (اسم الجزء: 1)

إلَّا بِالْمَجْمُوعِ، اللَّامُ دَاخِلَةٌ عَلَى اسْمِهِ تَعَالَى تُفِيدُ الِاخْتِصَاصَ الْإِثْبَاتِيَّ، وَهُوَ لَا يَسْتَلْزِمُ الْقَصْرَ كَمَا لَا يَسْتَلْزِمُهُ الثُّبُوتِيُّ. وَاَللَّهُ اسْمٌ لِلذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَلِذَلِكَ آثَرَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَسْمَائِهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الِاسْمُ هُوَ الْمُسْتَجْمِعُ لِجَمِيعِ الصِّفَاتِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ؛ لِأَنَّ الذَّاتَ الْمَخْصُوصَةَ هِيَ الْمَشْهُورَةُ بِالِاتِّصَافِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ، فَمَا يَكُونُ عَلَمًا لَهَا دَالًّا عَلَيْهَا بِخُصُوصِهَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَاتِ، لَا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا لِمَفْهُومٍ كُلِّيٍّ، وَإِنْ اخْتَصَّ فِي الِاسْتِعْمَالِ بِهَا كَالرَّحْمَنِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتِمُّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ لَفْظَ اللَّهِ عَلَمٌ لِلذَّاتِ كَمَا هُوَ الْحَقُّ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لَا الْمَفْهُومِ كَمَا زَعَمَهُ الْبَعْضُ.
وَأَصْلُهُ الْإِلَهُ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ وَعُوِّضَتْ مِنْهَا لَامُ التَّعْرِيفِ تَخْفِيفًا، وَلِذَلِكَ لَزِمَتْ وَصْفَهُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ؛ لِأَنَّ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إيلَاءِ كُلِّ نِعْمَةٍ وَيَسْتَحِقُّ جِنْسَ الْحَمْدِ، وَلَك أَنْ تَجْعَلَ نَفْيَ هَذِهِ الصِّفَةِ الَّتِي يَكُونُ إثْبَاتُهَا ذَرِيعَةً مِنْ ذَرَائِعِ مَنْعِ الْمَعْرُوفِ لِكَوْنِ الْوَلَدِ مَبْخَلَةً، وَالشَّرِيكِ مَانِعًا مِنْ التَّصَرُّفِ رَدِيفًا لِإِثْبَاتِ ضِدِّهَا عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ. وَإِنَّمَا افْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - كِتَابَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ إمْكَانِ تَأْدِيَةِ الْحَمْدِ الَّذِي يُشْرَعُ فِي الِافْتِتَاحِ بِغَيْرِهَا، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ إذَا أَفْصَحَ الْغُلَامُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الْآيَةَ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْنُ السُّنِّيِّ فِي عَمَلِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مِنْ طَرِيقِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَهُ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ النَّفْيِيَّةِ صِفَةً إثْبَاتِيَّةً مُشْتَمِلَةً عَلَى أَنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ بِأَسْرِهَا وَمُقَدِّرُهَا دِقَّهَا وَجُلَّهَا
وَلَا شَكَّ أَنَّ نِعْمَةَ خَلْقِ الْخَلْقِ وَتَقْدِيرِهِ مِنْ الْبَوَاعِثِ عَلَى الْحَمْدِ وَتَكْرِيرِهِ لِكَوْنِ ذَلِكَ أَوَّلَ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ بِهَا عَلَى الْحَامِدِ

(وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الْمُرْسَلِ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) أَرْدَفَ الْحَمْدَ بِالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَوْنِهِ الْوَاسِطَةَ فِي وُصُولِ الْكَمَالَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ إلَيْنَا مِنْ الرَّفِيعِ عَزَّ سُلْطَانُهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا كَانَ فِي نِهَايَةِ الْكَمَالِ وَنَحْنُ فِي نِهَايَةِ النُّقْصَانِ لَمْ يَكُنْ لَنَا اسْتِعْدَادٌ لِقَبُولِ الْفَيْضِ الْإِلَهِيِّ لِتَعَلُّقِنَا بِالْعَلَائِقِ الْبَشَرِيَّةِ وَالْعَوَائِقِ الْبَدَنِيَّةِ، وَتَدَنُّسِنَا بِأَدْنَاسِ اللَّذَّاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالشَّهَوَاتِ الْجِسْمِيَّةِ، وَكَوْنِهِ تَعَالَى فِي غَايَةِ التَّجَرُّدِ وَنِهَايَةِ التَّقَدُّسِ.
فَاحْتَجْنَا فِي قَبُولِ الْفَيْضِ مِنْهُ جَلَّ وَعَلَا إلَى وَاسِطَةٍ لَهُ وَجْهُ تَجَرُّدٍ وَنَوْعُ تَعَلُّقٍ، فَبِوَجْهِ التَّجَرُّدِ يَسْتَفِيضُ مِنْ الْحَقِّ، وَبِوَجْهِ التَّعَلُّقِ يَفِيضُ عَلَيْنَا، وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ هُمْ الْأَنْبِيَاءُ، وَأَعْظَمُهُمْ رُتْبَةً وَأَرْفَعُهُمْ مَنْزِلَةً نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذُكِرَ عَقِبَ ذِكْرِهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - تَشْرِيفًا لِشَأْنِهِ مَعَ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الزَّهَاوِيِّ

الصفحة 18