كتاب المستصفى للغزالي - الرسالة (اسم الجزء: 1)

بعض الأحوال خيفة من أن لا تستحكم نفرته عن الكذب فيقدم عليه وهو قبيح في أكثر الأحوال والسماع في الصغر كالنقش في الحجر فينغرس في النفس ويحن إلى التصديق به مطلقا وهو صدق لكن لا على الإطلاق بل في أكثر الأحوال وإذا لم يكن في ذكره إلا أكثر الأحوال فهو بالإضافة إليه كل الأحوال فلذلك يعتقده مطلقا
الغلطة الثالثة : سببها سبق الوهم إلى العكس فإن ما يرى مقرون بالشيء يظن أن الشيء أيضا لا محالة مقرون به مطلقا ولا يدري أن الأخص أبدا مقرون بالأعم والأعم لا يلزم أن يكون مقرونا بالأخص ومثاله نفرة نفس السليم وهو الذي نهشته الحية عن الحبل المبرقش اللون لأنه وجد الأذى مقرونا بهذه الصورة فتوهم أن هذه الصورة مقرونة بالأذى
وكذلك تنفر النفس عن العسل إذا شبه بالعذرة لأنه وجد الأذى والاستقذار مقرونا بالرطب الأصفر فتوهم أن الرطب الأصفر مقرون به الاستقذار ويغلب الوهم حتى يتعذر الأكل وإن حكم العقل بكذب الوهم لكن خلقت قوى النفس مطيعة للأوهام وإن كانت كاذبة حتى أن الطبع لينفر عن حسناء سميت باسم اليهود إذ وجد الاسم مقرونا بالقبح فظن أن القبح أيضا ملازم للاسم
ولذا تورد على بعض العوام مسألة عقلية جليلة فيقبلها فإذا قلت هذا مذهب الأشعري أو الحنبلي أو المعتزلي نفر عنه إن كان يسيء الاعتقاد فيمن نسبته إليه وليس هذا طبع العامي خاصة بل طبع أكثر العقلاء المتسمين بالعلوم إلا العلماء الراسخين الذين أراهم الله الحق حقا وقواهم على اتباعه وأكثر الخلق قوى نفوسهم مطيعة للأوهام الكاذبة مع علمهم بكذبها وأكثر إقدام الخلق وإحجامهم بسبب هذه الأوهام فإن الوهم عظيم الاستيلاء على النفس ولذلك ينفر طبع الإنسان عن المبيت في بيت فيه ميت مع قطعه بأنه لا يتحرك ولكنه كأنه يتوهم في كل ساعة حركته ونطقه

الصفحة 117