فإذا تنبهت لهذه المثارات فنرجع ونقول إنما يترجح الإنقاذ على الإهمال في حق من لا يعتقد الشرائع لدفع الأذى الذي يلحق الإنسان من رقة الجنسية وهو طبع يستحيل الانفكاك عنه
وسببه أن الإنسان يقدر نفسه في تلك البلية ويقدر غيره معرضا عنه وعن إنقاذه فيستقبحه منه بمخالفة غرضه فيعود ويقدر ذلك الاستقباح من المشرف على الهلاك في حق نفسه فيدفع عن نفسه ذلك القبح المتوهم
فإن فرض في بهيمة أو في شخص لا رقة فيه فهو بعيد تصوره
ولو تصور فيبقى أمر آخر وهو طلب الثناء على إحسانه
فإنه فرض حيث لا يعلم أنه المنقذ فيتوقع أن يعلم فيكون ذلك التوقع باعثا فإن فرض في موضع يستحيل أن يعلم فيبقى ميل النفس وترجح يضاهي نفرة طبع السليم عن الحبل المبرقش وذلك أنه رأى هذه الصورة مقرونة بالثناء فظن أن الثناء مقرون بها بكل حال كما أنه لما رأى الأذى مقرونا بصورة الحبل وطبعه ينفر عن الأذى فنفر عن المقرون بالأذى فالمقرون باللذيذ لذيذ والمقرون بالمكروه مكروه بل الإنسان إذا جالس من عشقه في مكان فإذا انتهى إليه أحس في نفسه تفرقة بين ذلك المكان وغيره ولذلك قال الشاعر
أمر على الديار ديار ليلى ... أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك الديار شغفن قلبي ... ولكن حب من سكن الديارا
وقال ابن الرومي منبها على سبب حب الأوطان
وحبب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم ... عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
وشواهد ذلك مما يكثر وكل ذلك من حكم الوهم
وأما الصبر على السيف في ترك كلمة الكفر مع طمأنينة النفس فلا يستحسنه جميع العقلاء لولا الشرع بل ربما استقبحوه وإنما استحسنه من ينتظر الثواب