كتاب المستصفى للغزالي - الرسالة (اسم الجزء: 1)

وبالاعتبار الثاني أنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات وهكذا بقية الاعتبارات
فإن قلت فنرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الاختلاف في الحد أترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء فاعلم أن الاختلاف في الحد يتصور في موضعين:
أحدهما أن يكون اللفظ في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله أو قول إمام من الأئمة يقصد الاطلاع على مراده به فيكون ذلك اللفظ مشتركا فيقع النزاع في مراده به فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد فالخلاف تباين بعد التوارد وإلا فلا نزاع بين من يقول السماء قديمة وبين من يقول الإنسان مجبور على الحركات إذ لا توارد فلو كان لفظ الحد في كتاب الله تعالى أو في كتاب إمام لجاز أن يتنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صناعة التفسير لا من صناعة النظر العقلي
الثاني أن يقع الاختلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حده أمرا ثانيا لا يتحد حده على المذهبين فيختلف كما يقول المعتزلي حد العلم اعتقاد الشيء على ما هو به ونحن نخالف في ذكر الشيء فإن المعدوم عندنا ليس بشيء وهو معلوم فالخلاف في مسألة أخرى يتعدى إلى هذا الحد
وكذلك يقول القائل: حد العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا وكذا ويخالف من يقول في حده إنه غريزة يتميز بها الإنسان عن الذئاب وسائر الحيوانات من حيث إن القائل الأول ينكر تميز العين بغريزة عن العقب وتميز الإنسان بغريزة عن الذئاب بها يتهيأ للنظر في العقليات لكن الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم في القلب دون العقب وفي الإنسان دون الذئاب وخلق البصر في العين دون العقب لا لتميزه بغريزة استعد بسببها لقبوله فيكون منشأ الاختلاف في الحد الاختلاف في إثبات هذه الغريزة أو نفيها
فهذه أمور وإن أوردناها في معرض الامتحان فقد أدرجنا فيها ما يجري

الصفحة 65