كتاب المستصفى للغزالي - الرسالة (اسم الجزء: 1)

ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم خلاء ولا ملاء وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان والأولى منهما ربما وقع لك الأنس بتكذيبها لكثرة ممارستك للأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك لأدلتها وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلاء والملاء غير ممكن لأن الخلاء باطل بالبراهين القاطعة إذ لا معنى له والملاء متناه بأدلة قاطعة إذ يستحيل وجود أجسام لا نهاية لها وإذا ثبت هذان الأصلان علم أنه لا خلاء ولا ملاء وراء العالم وهذه القضايا مع أنها وهمية فهي في النفس لا تتميز عن الأوليات القطعية مثل قولك لا يكون شخص في مكانين بل يشهد به أول الفطرة كما يشهد بالأوليات العقلية وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعا هو صادق بل الصادق ما يشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة
وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفة الدليل أيضا لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها
فإن قلت: فبماذا أميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل ومتى يحصل الأمان منها؟. فاعلم أن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيد العلم اليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن وقالوا بتكافؤ الأدلة وادعوا اليقين بتكافؤ الأدلة وقال بعضهم لا تيقن أيضا بتكافؤ الأدلة بما هو أيضا في محل التوقف
وكشف الغطاء عن هذه الورطة يستدعي تطويلا فلا نشتغل به
ونفيدك الآن طريقين نستعين بهما في تكذيب الوهم
[الطريق] الأول جملي : وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات ليست من النظريات ولو عرضت على الوهم نفس الوهم لأنكره فإنه يطلب له سمكا ومقدارا ولونا فإذا لم يجده أباه ولو كلفت

الصفحة 98