كتاب جمع الوسائل في شرح الشمائل (اسم الجزء: 1)

صَارَتْ رَحْبَةُ الكُوفَة بِمَنزِلَةِ رَحْبَة الَمسْجِدِ فَيُقْرَأَ بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ذَكَرَهُ الْعَسْقَلَانِيُّ وَقَالَ فِي الْمُغْرِبِ: أَمَّا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّهُ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ، فَإِنَّهُ مَكَانٌ وَسَطَ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقْعُدُ فِيهِ وَيَعِظُ (فَأَخَذَ مِنْهُ) أَيْ مِنَ الْمَاءِ أَوِ الْكُوزِ (كَفًّا) أَيْ قَدْرَ كَفٍّ مِنَ الْمَاءِ (فَغَسَلَ يَدَيْهِ) أَيْ إِلَى رُسْغَيْهِ (وَمَضْمَضَ) عَطْفٌ عَلَى أَخَذَ لَا عَلَى غَسَلَ، كَذَا ذَكَرَهُ الْحَنَفِيُّ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَاسْتَنْشَقَ) إِلَخْ وَقَالَ الْعِصَامُ: الظَّاهِرُ عَطْفُ مَضْمَضَ عَلَى غَسَلَ، فَيَكُونُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ وَمَسْحُ الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ وَالرَّأْسِ مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، وَلَا صَارِفَ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَحَرَّرَ عَنْ لُزُومِ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ عَطْفًا عَلَى أَخَذَ، انْتَهَى.
وَقُلْتُ: لَا صَارِفَ أَقْوَى مِنَ اسْتِبْعَادِ غَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ، وَمَسْحِ بَعْضِهَا مِنْ كَفٍّ وَاحِدٍ، مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْعَقْلِ الْعُرْفِيِّ، (وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ) أَيْ غَسَلَهَا غَسْلًا خَفِيفًا، فَالْمُرَادُ بِالْوُضُوءِ فِي كَلَامِهِ الْوُضُوءُ الشَّرْعِيُّ، وَيُؤَيِّدُ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ أَنَّهُ غَسَلَهَا، أَوْ لَمْ يَغْسِلْهَا، فَالْمُرَادُ بِهِ الْوُضُوءُ الْعُرْفِيُّ، وَهُوَ مُطْلَقُ التَّنْظِيفِ، وَيُؤَيِّدُهُ تَرْكُ ذِكْرِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْأَصْلِ، فَيُحْمَلُ خِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى تَعَدُّدِ الْوَاقِعَةِ فِي الرَّحَبَةِ
أَوْ تَرْجِيحِ إِحْدَاهُمَا (وَرَأْسَهُ) أَيْ وَمَسَحَ رَأْسَهُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَوَقَعَ فِي رِوَايَةٍ وَرِجْلَيْهِ، أَيْ وَمَسَحَهُمَا أَيْ غَسَلَهُمَا غَسْلًا خَفِيفًا، وَفِي رِوَايَةٍ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، (ثُمَّ شَرِبَ) أَيْ مِنْهُ كَمَا فِي نُسْخَةٍ أَيْ مِنْ فَضْلِ مَاءِ وَضُوئِهِ، (وَهُوَ قَائِمٌ) حَالٌ (ثُمَّ قَالَ هَذَا) أَيْ مَا ذُكِرَ، الْإِشَارَةُ لِمَا عَدَا الشُّرْبِ، (وُضُوءُ مَنْ لَمْ يُحْدِثْ) أَيْ مَنْ لَمْ يُرِدْ طُهْرَ الْحَدَثِ، بَلْ أَرَادَ التَّجْدِيدَ أَوِ التَّنْظِيفَ، وَإِلَّا فَوُضُوءُ الْمُحْدِثِ مَعْلُومٌ بِشَرَائِطَ مَعْرُوفَةٍ، (هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَلَ) وَمِنْ بَعْضِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ الشُّرْبُ قَائِمًا، وَهَذَا هُوَ سَبَبُ إِيرَادِ الْحَدِيثِ فِي هَذَا الْبَابِ.
قَالَ مِيرَكُ: الظَّاهِرُ أَنَّ صَنِيعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، لَا لِبَيَانِ الِاسْتِحْبَابِ ; لِيُعْلَمَ أَنَّ الشُّرْبَ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالشُّرْبَ قَائِمًا جَائِزَانِ.
قُلْتُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الشُّرْبِ مِنْ فَضْلِ الْوُضُوءِ ; لِيَكُونَ فِعْلُهُ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِهِ، نَعَمْ شُرْبُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، وَأَنْ يَكُونَ لِلِاسْتِحْبَابِ بِخُصُوصِ هَذَا الْمَاءِ الْمُتَبَرَّكِ عُقَيْبَ هَذَا الْفِعْلِ الْمُعَظَّمِ، وَهُوَ مُخْتَارُ مَشَايِخِنَا، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ عَمَلُ عَلِيٍّ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيَانِ الْجَوَازِ، كَانَ تَرْكُهُ أَفْضَلَ.
ثُمَّ الْحَدِيثُ بِرِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ مَذْكُورٌ فِي الْمِشْكَاةِ، بِأَبْسَطَ مِنْ هَذَا، وَقَدْ شَرَحْنَاهُ شَرْحًا بَيِّنًا.

(حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَيُوسُفُ بْنُ حَمَّادٍ قَالَا: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عِصَامٍ) بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَهُوَ الْبَصْرِيُّ قِيلَ: اسْمُهُ ثُمَامَةُ، وَقِيلَ: خَالِدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْعَتَكِيُّ، رَوَى لَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، كَذَا حَقَّقَهُ الْجَزَرِيُّ وَفِي نُسْخَةٍ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَتَنَفَّسُ فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا إِذَا شَرِبَ) فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ يُبِينُ الْإِنَاءَ عَنْ فِيهِ، فَيَتَنَفَّسُ ثُمَّ

الصفحة 252