كتاب سلم الوصول إلى طبقات الفحول (اسم الجزء: مقدمة)

الجيش كله إلى قرب المتاريس ورابط هناك، فارتبك الجميع ورفعوا خيامهم ثم نصبوها خلف المتاريس، وقام كل واحد بحفر خندق أمام خيمته، ثم يصور كاتب جلبي الأمور ببعض الصور الحية عندما يقول: "وكنا نقوم بتكويم القرب الجرداء ونفتح دفتر المقابلة ونجلس وراءه، وفي الليل نحفر حفرة ننام فيها مثل القبر" (¬18).
وفي عام 1041 هـ (1631 - 1632 م) عاد كاتب جلبي مرة أخرى إلى إستانبول، وراح يواظب على دروس قاضي زاده، وقرأ عليه التفسير وإحياء العلوم، وشرح المواقف، والدرر، والطريقة المحمدية.
وفي عام 1043 هـ (1633 - 1634 م) عندما انسحب الجيش تحت قيادة الوزير الأعظم محمد باشا إلى حلب لقضاء الشتاء هناك سافر كاتب جلبي من حلب إلى الحجاز، وفي عودته كان الجيش آنذاك في ديار بكر فقضى فصل الشتاء في تلك المدينة بمصاحبة بعض العلماء والتباحث معهم.
وفي عام 1044 هـ (1634 - 1635 م) سافر مع السلطان مراد الرابع في حملته على رَوَان، وروى لنا بالتفصيل مشاهداته وانطباعاته عن تلك الحرب.
وبعد أن قضى قدر عشر سنوات يصاحب الجيش في الحروب والحملات المختلفة، و"تم له بذلك أمر الحج والجهاد" عاد إلى إستانبول بقصد التفرغ الكامل لتحصيل "العلم الشريف"، والانتقال من "الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" كما هو شائع. وفي إستانبول أنفق على شراء الكتب إرثًا صغيرًا كان له. وكان أثناء إقامته في حلب قد بدأ يسجل أسماء الكتب التي يراها في حوانيت الوراقين، وكان يميل بطبعه إلى مطالعة كتب التاريخ والطبقات والوفيات أكثر من غيرها، حتى استكمل قراءة كل ما وقع تحت يده منها في عام 1046 هـ (1636 - 1637 م). ولما توفي أحد أقربائه عام 1047 هـ (1638 م) وكان تاجرًا ثريًا ورث عنه عدة أحمال من الأقجه (اسم العملة العثمانية)، فانفق قدر ثلاثة منها على شراء الكتب، والباقي على تعمير وإصلاح دار له كانت تقع في الجانب الشمالي لجامع الفاتح (¬19)، وفي موضع متوسط بين الجامع المذكور وجامع السلطان سليم، ثم تزوج في السنة نفسها.
ولأنه كان قد عزم على الانقطاع للبحث والتأليف لم يشارك هذه المرة في حملة السلطان مراد الرابع على بغداد، وراح يواظب على دروس مصطفى أفندي الأعرج الذي اشتهر بالعلم
¬__________
(¬18) نفس المصدر، 2/ 128 وما بعدها.
(¬19) هو الجامع الذي بناه فاتح إستانبول السلطان محمد الثاني.

الصفحة 15