كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

لَهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ فَهْمٌ لَا يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِي الْكَرَاهَةِ حِينَئِذٍ، وَإِنَّمَا تُخَالِفُهُمَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا فَهُوَ يَنْفِي الْكَرَاهَةَ إنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ مُوجِبُهَا وَغَيْرُهُ قَبِلَ شَهَادَتَهُمَا لِأَنَّ مُوجِبَهَا ثَابِتٌ مِنْ غَيْرِ شَهَادَةٍ كَمَا بَيَّنْته فِي شَرْحِ الْعُبَابِ بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ» وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْتِعْمَالَهُ مُرِيبٌ، وَقَدْ رَدَّ الزَّرْكَشِيُّ وَغَيْرُهُ دَعْوَى النَّوَوِيِّ أَنَّ الْمُوَافِقَ لِلدَّلِيلِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ بِأَنَّهُ صَحَّ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ كَرِهَهُ.
وَقَالَ: إنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَتُهُ؛ فَكَانَ إجْمَاعًا ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ: تَوْقِيفًا إذْ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَيُؤَيِّدُهُ الْخَبَرُ الضَّعِيفُ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ وَضْعَهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «سَخَّنْتُ لِلنَّبِيِّ مَاءً فِي الشَّمْسِ فَقَالَ لَا تَفْعَلِي يَا حُمَيْرَاءُ فَإِنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ» ، وَقَوْلُ النَّوَوِيِّ لَمْ يَثْبُتْ عَنْ الْأَطِبَّاءِ فِيهِ شَيْءٌ شَهَادَةُ نَفْيٍ وَكَفَى فِي إثْبَاتِهِ إخْبَارُ السَّيِّدِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ الَّذِي هُوَ أَعْرَفُ بِالطِّبِّ مِنْ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَمَسَّكَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَبَرٌ لَا تَقْلِيدٌ فَهُوَ وَقَوْلُ جَمْعٍ آخَرِينَ لَمْ يَذْهَبْ أَحَدٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ إلَى أَنَّهُ يُورِثُ الْبَرَصَ يَرُدُّ بِذَلِكَ أَيْضًا.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْإِمَامُ عَلَاءُ الدِّينِ بْنُ النَّفِيسِ فِي شَرْحِهِ عَلَى التَّنْبِيهِ وَبَيَّنَ هَذَا أَيْ أَنَّهُ لَا يُورِثُ الْبَرَصَ لَكِنْ عَلَى نُدُورٍ وَهُوَ عُمْدَةٌ فِي ذَلِكَ لِجَلَالَتِهِ فِيهَا.
وَقَدْ سُقْت عِبَارَتَهُ بِتَمَامِهَا فِي شَرْحِ الْعُبَابِ وَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ نَفِيسَةٍ فَيَنْبَغِي مُرَاجَعَتُهَا، وَقَوْلُهُ عَنْهُ أَنَّهُ عُمْدَةٌ فِي ذَلِكَ لِجَلَالَتِهِ فِيهِ هُوَ كَذَلِكَ كَمَا شَهِدَتْ بِهِ كُتُبُهُ وَتَرَاجِمُ الْأَئِمَّةِ لَهُ وَمِنْ ثَمَّ كَانَ عُمْدَةُ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَهُ إلَى زَمَانِنَا بِإِجْمَاعِ الْفِرَقِ؛ فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْته ظُهُورُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَأَنَّ الْكَرَاهَةَ هِيَ الْحَقُّ الْمُوَافِقُ لِلدَّلِيلِ.
وَالْمَعْنَى وَإِنْ كَثُرَ الْمُتَنَازِعُونَ فِيهَا لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى شَهَادَةِ أَحَدٍ مِنْ الْأَطِبَّاءِ بَعْدَ إخْبَارِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَبِمَا جَمَعْت بِهِ بَيْنَ الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ وَالْقَوْلِ بِالْحُرْمَةِ يُعْلَمُ أَنَّ مَا هُنَا مِنْ حُرْمَةِ الْمُشَمَّسِ وَالْمُسَخَّنِ عِنْدَ إخْبَارِ طَبِيبَيْنِ أَوْ طَبِيبٍ بِنَاءً عَلَى مَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ يَضُرُّ الْمُسْتَعْمِلَ بِالنِّسْبَةِ لِمُقْتَضٍ قَامَ بِمِزَاجِهِ لَا يُنَافِي مَا فِي السُّؤَالِ عَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمُضْطَرِّ إذَا خَافَ السُّمَّ لِأَنَّهُ فِي مُجَرَّدِ خَوْفٍ لَمْ يَسْتَنِدْ لِعَلَامَةٍ تُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الضَّرَرَ وَمَا هُنَا فِي خَوْفٍ اسْتَنَدَ لِعَلَامَةٍ هِيَ إخْبَارُ الْعَدْلِ أَوْ مَعْرِفَتُهُ نَفْسِهِ بِالطِّبِّ يُغَلِّبُ عَلَى الظَّنِّ الضَّرَرَ فَمِنْ ثَمَّ جَازَ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ وَحَرُمَ اسْتِعْمَالُ الْمُشَمَّسِ وَالْمُسَخَّنِ فِي مَسْأَلَتِنَا وَقَدْ صَرَّحَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَا ظُنَّ تَرَتُّبُ الضَّرَرِ عَلَيْهِ غَالِبًا حَرَامٌ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَقَامَ الظَّنَّ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ وَمَا شُكَّ فِي تَرَتُّبِهِ عَلَيْهِ جَائِزٌ كَمَا مَرَّ عَنْ السُّبْكِيّ فِي حَلَبِيَّاتِهِ وَكَذَا يُقَالُ فِي السُّؤَالِ عَنْهُمَا فِي التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ خَوْفٍ لَا ظَنَّ مَعَهُ كَمَا مَرَّ التَّصْرِيحُ بِهِ عَنْ السُّبْكِيّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَّا إذَا انْغَمَسَ جُنُبٌ فِي مَاءٍ دُونَ قُلَّتَيْنِ فَنَوَى فِي حَالَةِ انْغِمَاسِهِ وَارْتَفَعَ حَدَثُهُ ثُمَّ لَوْ أَحْدَثَ حَدَثًا آخَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهُ بِمَا انْغَمَسَ فِيهِ وَلَوْ مَسَحَ جَمِيعَ رَأْسِهِ ثُمَّ رَدَّدَ الْمَاءَ لَمْ يَحْصُلْ التَّثْلِيثُ لِأَنَّ الْمَاءَ صَارَ مُسْتَعْمَلًا وَإِنْ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ الرَّأْسِ وَحِينَئِذٍ فَقَدْ حَصَلَ لِلنَّفْلِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْفَرْضِ مَا الْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؟ فَإِنَّهُ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ.
(فَأَجَابَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ لِلنَّفْلِ مَزِيَّةٌ فِيمَا ذُكِرَ لِأَنَّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَم الْحُكْمِ بِالِاسْتِعْمَالِ عَلَى الْمَاءِ فِي الْأُولَى وَهُوَ ظَاهِرٌ لِبَقَاءِ صُورَةِ الِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَعَلَى الْحُكْمِ عَلَيْهِ فِي الثَّانِيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمُشْكِلُ وَمِنْ ثَمَّ اسْتَشْكَلَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَتَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ الْجَوَابَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنْت ذَلِكَ مَعَ الْجَوَابِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا غُبَارَ عَلَيْهِ فِي كِتَابِي شَرْحُ مُخْتَصَرِ الرَّوْضِ فَاطْلُبْهُ فَإِنَّهُ مُهِمٌّ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا صُورَتُهُ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ (لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي نَحْوِ أَحَدِ الْكُمَّيْنِ أَوْ أَحَدِ طَرَفَيْ الْعِمَامَةِ وَاشْتَبَهَ فَهَلْ يَجْتَهِدُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَصَحُّهُمَا لَا. وَعَلَيْهِمَا يُخَرَّجُ مَا لَوْ أَخْبَرَهُ شَخْصٌ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِي أَحَدِهِمَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ خَبَرِهِ؟ إنْ قُلْنَا يَجْتَهِدُ جَازَ وَإِلَّا فَلَا) اهـ. فَمَا وَجْهُ التَّخْرِيجِ فَإِنَّهُ أُشْكِلَ عَلَى كَثِيرٍ.
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا التَّخْرِيجَ طَرِيقَةٌ لِبَعْضِ الْأَصْحَابِ وَإِلَّا فَكَلَامُ الْأَكْثَرِينَ يَقْتَضِي قَبُولُ خَبَرِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْوَجْهُ الَّذِي لَا مَحِيدَ عَنْهُ لِأَنَّهُ حَيْثُ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً وَبَيَّنَ النَّجَاسَةَ، أَوْ كَانَ مُوَافِقًا لِلْمُخْبَرِ فِي بَابِ تَنْجِيسِ الثِّيَابِ وَنَحْوِهَا وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهِ.
وَإِنْ قَالَ لَهُ وَقَعَتْ النَّجَاسَةُ فِي نَحْوِ أَحَدِ الْكُمَّيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ عَرَفَ عَيْنَ الْمُتَنَجِّسِ كَانَ هَذَا الْإِيهَامُ لَا يَقْتَضِي طَعْنًا فِي الْخَبَرِ لِإِفَادَةِ خَبَرِهِ تَحَقُّقَ نَجَاسَةِ أَحَدِهِمَا وَعِنْدَ تَحَقُّقِهِمَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا عَلَى الْأَصَحِّ وَيَجْتَهِدُ عَلَى مُقَابِلِهِ فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَجْهَ قَبُولُ

الصفحة 10