كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

فَالسَّلْبُ بَاقٍ مَعَ كَثْرَتِهِ أَيْضًا إذْ الْمَسْلُوبُ لَا يُمْكِنُ عَوْدُهُ فَهُوَ كَالْمَائِعِ لَا يَرْفَعُ حَدَثًا، وَلَا يُزِيلُ نَجَسًا وَلَا يُدْفَعُ بِهِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ مَغْلُوبٌ فَمَا ذَاكَ إلَّا لِضَعْفِهِ بِالْقِلَّةِ فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ وَهُوَ كَثِيرٌ لَمْ يَتَأَثَّرْ بِالِاسْتِعْمَالِ فَإِذَا جُمِعَ الْقَلِيلُ الْمُسْتَعْمَلُ حَتَّى كَثُرَ زَالَ ضَعْفُهُ فَبَرَزَ مَعْنَى الطَّهُورِيَّةِ الْكَامِنُ فِيهِ فَصَارَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ وَمُزِيلًا لِلنَّجَسِ، وَدَافِعًا لَهُ فَلَمْ يَتَأَثَّرْ بِهِ إذَا وَقَعَ فِيهِ بِخِلَافِ الَّذِي بَلَغَ قُلَّتَيْنِ بِتَكْمِيلِ الْمَائِعِ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ فَإِنَّهُ طَهُورٌ؛ لِبَقَاءِ اسْمِهِ فَهُوَ كَمَا كَانَ قَبْلَ انْضِمَامِ الْمَائِع لَهُ لِأَنَّهُ كَالْمَعْدُومِ حِينَئِذٍ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِعْمَالُهُ وَلَا يَجِبُ تَبْقِيَةُ قَدْرِ الْمَائِعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ النَّجَسَ عَنْ نَفْسِهِ لِمَفْهُومِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا وَهَذَا لَمْ يَبْلُغْ قُلَّتَيْنِ بِمَحْضِ الْمَاءِ، فَهُوَ نَاقِصٌ عَنْهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ إذْ الْمُخَالِطُ فِي مَعْنَى الْمَعْدُومِ.
فَإِنْ قِيلَ بَلْ هُوَ مَوْجُودٌ حِسًّا، وَقَدْ جَعَلْتُمُوهُ كَالْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ بِهِ فَلْيَكُنْ كَالْمَاءِ فِي دَفْعِ النَّجَاسَةِ كَمَا أُشِيرَ إلَيْهِ فِي السُّؤَالِ. قُلْنَا: وُجُودُهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى دَفْعِهَا كَعَدَمِهِ كَمَا مَرَّ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَثُرَ الْمَائِعُ لَا يَدْفَعُ النَّجَاسَةَ وَوُجُوبُ اسْتِعْمَالِهِ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ لَيْسَ بِكَوْنِ الْمَائِعِ صَارَ مَاءً وَلَا مِثْلَهُ فِي الدَّفْعِ بَلْ إنَّهُ لَمْ يَسْلُبْهُ اسْمَ الْمَاءِ لِقِلَّتِهِ، فَالْحُكْمُ لِلْمَاءِ وَإِذَا سَلِمَ قَوْلُ الْقَائِلِ أَنَّ الدَّافِعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى مِنْ الرَّافِعِ فَعَوْدُ الطَّهُورِيَّةِ لِلْقُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مِنْ مَحْضِ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ اُسْتُعْمِلَ لِكَوْنِهِمَا أَقْوَى مِنْ قُلَّتَيْنِ: بَعْضُهُمَا مَاءٌ وَبَعْضُهُمَا مَائِعٌ نَعَمْ إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ الدَّافِعَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ أَقْوَى لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ إذْ الطَّلَاقُ رَافِعٌ لِلنِّكَاحِ غَيْرُ دَافِعٍ لَهُ وَالْإِحْرَامُ دَافِعٌ لَهُ غَيْرُ رَافِعٍ.
وَالطَّلَاقُ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ الْإِحْرَامِ فَالرَّافِعُ هُنَا أَقْوَى وَكَالْإِحْرَامِ عِدَّةُ الشُّبْهَةِ وَحَقِيقَةُ الرَّافِعِ أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّ أَثَرٍ وَيُرَدُّ عَلَيْهِ مَا يَرْفَعُ ذَلِكَ الْأَثَرَ كَالطَّلَاقِ إذَا وَرَدَ عَلَى النِّكَاحِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَرَدَ عَقْدُ نِكَاحِ الرَّجُلِ عَلَى مُطَلَّقَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْدَفِعُ بِذَلِكَ الطَّلَاقِ السَّابِقِ، وَإِنْ صَدَقَ عَلَيْهَا أَنَّهَا مُطَلَّقَتُهُ وَحَقِيقَةُ الدَّفْعِ أَنْ يُرَدَّ شَيْءٌ عَلَى مَحَلٍّ قَابِلٍ لِتَأَثُّرِهِ بِهِ لَوْ لَمْ يَكُنْ دَافِعٌ فَيُصَادِفُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ شَيْئًا يَدْفَعُهُ وَيَمْنَعُ تَأَثُّرَهُ فِيهِ كَالْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ إذَا وَرَدَ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْمُحْرِمَةِ مَثَلًا دَفَعَهُ الْإِحْرَامُ فَلَا يَنْعَقِدُ وَإِنْ وَرَدَ الْإِحْرَامُ عَلَى النِّكَاحِ لَا يَرْفَعُهُ بَلْ يَدُومُ مَعَهُ وَالْأَغْلَبُ أَنَّ كُلَّ رَافِعٍ دَافِعٌ وَعَكْسُهُ، وَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ دَافِعًا فَقَطْ كَالْإِحْرَامِ وَعِدَّةُ الشُّبْهَةِ وَقَدْ يَكُونُ رَافِعًا فَقَطْ كَالطَّلَاقِ وَالْمَاءِ الْقَلِيلِ.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ شَجَرٍ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يَخْرُجُ مِنْهُ عِنْدَ انْتِشَارِ الرِّيَاحِ بُخَارٌ كَالدُّخَانِ وَيَرْشَحُ مَائِعًا كَالْمَاءِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَهَلْ لَهُ حُكْمُ الْمَاءِ فِي الطَّهُورِيَّةِ؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: لَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ بَلْ هُوَ كَالْمَائِعِ جَزْمًا، وَفَارَقَ بُخَارَ الطَّهُورِ الْمَغْلِيَّ بِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْمَاءِ بِخِلَافِ هَذَا إذْ هُوَ كَمَاءِ الشَّجَرِ وَهُوَ لَيْسَ بِطَهُورٍ قَطْعًا قَالَ بَعْضُهُمْ: وَبَلَغَنِي أَنَّ الْقَوَافِلَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ إذَا عَدِمُوا الْمَاءَ حَفَرُوا حُفْرَةً ثُمَّ سَتَرُوهَا بِشَيْءٍ مِنْ الشَّجَرِ وَتَرَكُوهَا مُدَّةً ثُمَّ يَصْعَدُ بُخَارٌ مِنْ الْحُفْرَةِ يَعْلَقُ بِالشَّجَرَةِ يَرْشَحُ مَائِعًا عَلَى هَيْئَةِ الْمَاءِ وَيَجْتَمِعُ مِنْهُ فِي الْحُفْرَةِ مَا يَكْفِيهِمْ وَهُوَ غَيْرُ طَهُورٍ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ إذْ هُوَ مَاءُ شَجَرٍ أَيْضًا.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا صُورَتُهُ حَرَّكَتْ الرِّيحُ التُّرَابَ الْمُخْتَلِطَ بِالنَّجَاسَةِ وَحَمَلَتْ مِنْهُ أَجْزَاءً كَالذَّرِّ وَأَلْقَتْهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ هَلْ يُنَجِّسُهُ؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْبَسِيطِ أَنَّهُ يُعْفَى عَنْ ذَلِكَ وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُدْرِكَهُ الطَّرْفُ أَمْ لَا.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِمَا صُورَتُهُ لَوْ تَنَجَّسَ حَبٌّ أَوْ أَعْيَانٌ مُتَعَدِّدَةٌ صَغِيرَةٌ أَوْ كَبِيرَةٌ فَجُمِعَ الْحَبُّ أَوْ الْأَعْيَانُ فِي إنَاءٍ طَاهِرٍ أَوْ مُتَنَجِّسٍ، وَأُورِدَ عَلَيْهِ مَاءٌ قَلِيلٌ وَأُدِيرَ حَتَّى غَمَرَ الْأَعْيَانَ وَجَوَانِبَ الْإِنَاءِ وَزَالَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالطَّهَارَةِ فَذَاكَ وَإِلَّا فَمَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ الْمَوْضُوعُ فِي الْإِنَاءِ عَيْنًا وَاحِدَةً أَهُوَ كَذَلِكَ أَيْضًا أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - بِقَوْلِهِ: إذَا وُضِعَتْ أَعْيَانٌ أَوْ عَيْنٌ مُتَنَجِّسَةٌ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً فِي إنَاءٍ مُتَنَجِّسٍ نَجَاسَةً حُكْمِيَّةً أَيْضًا، ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهَا مَاءٌ حَتَّى غَمَرَهَا وَغَمَرَ جَوَانِبَ الْإِنَاءِ أَوْ أَدَارَهُ حَتَّى طَهُرَتْ جَوَانِبُهُ طَهُرَ الْإِنَاءُ وَمَا فِيهِ وَإِلَّا فَلَا.

(وَسُئِلَ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَا لَفْظُهُ قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِيمَا إذَا جَرَى الْمَاءُ عَلَى عُضْوِ الْمُتَطَهِّرِ إلَى عُضْوِهِ الْآخَرِ وَإِنْ كَانَ الْمُتَطَهِّرُ جُنُبًا فَقَالَ صَاحِبُ الْحَاوِي وَالْبَحْرِ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا وَلَا يَرْفَعُ الْجَنَابَةَ عَنْ الْعُضْوِ الَّذِي انْتَقَلَ إلَيْهِ كَالْمُحْدِثِ قَالَا وَأَصَحُّهُمَا لَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا حَتَّى يَنْفَصِلَ عَنْ كُلِّ الْبَدَنِ لِأَنَّهُ كُلَّهُ كَعُضْوٍ.
وَقَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ إذَا صَبَّ الْجُنُبُ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ فَسَقَطَ مِنْ الرَّأْسِ

الصفحة 12