كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

أَعْضَاءِ الْجُنُبِ إلَى بَعْضٍ لَا يُصَيِّرُهُ مُسْتَعْمَلًا، وَإِنْ كَانَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا بَحَثَ هُنَا فِي شَرْحِ الرَّوْضِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ بِنَقْلِ الْمَاءِ مُفَارَقَةَ الَّذِي يَغْلِبُ كَمَا عَبَّرَ بِهِ الرَّافِعِيُّ اهـ كَلَامُهُ.
وَبَحْثُهُ هَذَا يَأْبَاهُ كَلَامُ الْمُهَذَّبِ وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ فِي بَابِ الْوُضُوءِ لَمَّا ذَكَرَ مَذْهَبَ مَنْ لَمْ يَشْتَرِطْ التَّرْتِيبَ فِيهِ وَاحْتِجَاجَهُمْ بِأَنَّهُ طَهَارَةٌ؛ فَلَمْ يَجِبْ فِيهَا تَرْتِيبٌ كَالْجَنَابَةِ مَا لَفْظُهُ (وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى غُسْلِ الْجَنَابَةِ أَنَّ جَمِيعَ بَدَنِ الْجُنُبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ تَرْتِيبُهُ كَالْوَجْهِ بِخِلَافِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهَا مُتَغَايِرَةٌ وَمُتَفَاصِلَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ بَدَنَ الْجُنُبِ وَاحِدٌ أَنَّهُ لَوْ جَرَى الْمَاءُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ فِي الْوُضُوءِ؛ بِخِلَافِ الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ لَوْ انْتَقَلَ مِنْ الْوَجْهِ إلَى الْيَدِ لَمْ يُجْزِئْهُ) اهـ.
وَفِي شَرْحِ الْمُهَذَّبِ وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَغَيْرُهُمْ عَلَى طَهَارَةِ الْمُسْتَعْمَلِ «بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اغْتَسَلَ وَنَسِيَ لُمْعَةً ثُمَّ عَصَرَ عَلَيْهَا شَعْرًا.» قَالَ: وَجَوَابُهُ مِنْ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُ ضَعِيفٌ. وَالثَّانِي: لَوْ صَحَّ حُمِلَ عَلَى بَلَلٍ بَاقٍ مِنْ الْغَسْلَةِ الثَّانِيَةِ أَوْ الثَّالِثَةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حُكْمَ الِاسْتِعْمَالِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْ الْعُضْوِ وَهَذَا لَمْ يَنْفَصِلْ، وَبَدَنُ الْجُنُبِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ؛ وَلِهَذَا لَا تَرْتِيبَ فِيهَا.
وَفِي هَذَا أَيْضًا دَلِيلٌ عَلَى اعْتِمَادِ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ فَحِينَئِذٍ الْقَصْدُ مِنْ تَفَضُّلِكُمْ إمْعَانُ النَّظَرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَبْيِينُ مَا تَعْتَمِدُونَهُ فِيهَا فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِمَّنْ اجْتَمَعَتْ بِهِ وَأُخِذَتْ عَنْهُ يَعْتَمِدُ الِاسْتِعْمَالَ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَلَكِنْ تَأَمَّلُوا الْكَلَامَ الَّذِي ذَكَرْته وَاكْتُبُوا الْجَوَابَ بِمَا يَتَرَجَّحُ.
(فَأَجَابَ) - شَكَرَ اللَّهُ سَعْيَهُ - بِقَوْلِهِ: سَبَبُ اخْتِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَشَكَرَ سَعْيَهُمْ - فِي فَهْمِ عِبَارَةِ التَّحْقِيقِ وَالنَّقْلِ عَنْهَا أَنَّ نُسَخَهُ مُخْتَلِفَةٌ فَفِي بَعْضِهَا بَلْ أَكْثَرِهَا مَا حَكَاهُ السَّائِلُ - نَفَعَ اللَّهُ بِعُلُومِهِ وَبَرَكَتِهِ - بِقَوْلِهِ: وَعِبَارَةُ التَّحْقِيقِ (وَلَا يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا. .. إلَخْ) وَهُوَ مَا حَكَاهُ شَيْخُنَا زَكَرِيَّا خَاتِمَةُ الْمُحَقِّقِينَ - سَقَى اللَّهُ عَهْدَهُ صَوْبَ الرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ وَأَعْلَى دَرَجَتَهُ فِي الْجِنَانِ آمِينَ - لَكِنَّهُ حَذَفَ مِنْ الْعِبَارَةِ حِكَايَةَ الضَّعِيفِ لِعَدَمِ غَرَضٍ لَهُ فِيهِ.
وَفِي بَعْضِهَا، وَقِيلَ: لَا وَيَضُرُّ انْفِصَالُهُ بِزِيَادَةِ وَاوٍ فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ تَرْجِيحَ الِاسْتِعْمَالِ كَالْإِسْنَوِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ كَشَيْخِنَا لَعَلَّهُ إنَّمَا رَأَى النُّسْخَةَ الَّتِي سَقَطَتْ مِنْهَا الْوَاوُ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ تَرْجِيحَ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ كَالنَّشَائِيِّ وَمَنْ تَبِعَهُ لَعَلَّهُ إنَّمَا رَأَى النُّسْخَةَ الَّتِي ثَبَتَتْ فِيهَا الْوَاوُ وَعِبَارَةُ ابْنِ الْمُلَقِّنِ الْمَذْكُورَةُ فِي السُّؤَالِ لَا تُوَافِقُ كُلًّا مِنْ النُّسْخَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ نُسْخَتَهُ فِيهَا حَذْفُ لَا مَعَ الْوَاوِ فَإِنْ قُلْت: مَا وَجْهُ فَهْمِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعِبَارَةِ عَلَى كِلَا الطَّرِيقَيْنِ؟
قُلْت: أَمَّا عَلَى إثْبَاتِ الْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ فِي حَالَةِ تَرَدُّدِ الْمَاءِ عَلَيْهِ بِلَا انْفِصَالٍ فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا وَقِيلَ لَا فَيَكُونُ مُسْتَعْمَلًا ثُمَّ قَالَ وَيَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ فَاتَّجَهَ حِينَئِذٍ نَقْلُ عَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْجَرْيِ عَلَى الِاتِّصَالِ عَنْ عِبَارَةِ التَّحْقِيقِ، فَإِنْ قُلْت: تَعْبِيرُ النَّشَائِيِّ بِالِانْفِصَالِ يُنَافِي مَا ذَكَرْت قُلْت: قَوْلُهُ يَجْرِي الْمَاءُ إلَيْهِ ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرْتُ مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْجَرْيِ عَلَى الِاتِّصَالِ.
وَعَلَى تَسْلِيمِ ظَاهِرِ التَّعْبِيرِ بِالِانْفِصَالِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى انْفِصَالٍ يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ كَمَا يَأْتِي عَنْ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَمَّا عَلَى حَذْفِ الْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْنَى الْعِبَارَةِ وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ فِي أَنَّ الْمَاءَ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لِمُفَارَقَتِهِ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ إلَى بَعْضٍ آخَرَ وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ فَاتَّضَحَ حِينَئِذٍ نَقْلُ الِاسْتِعْمَالِ لَكِنْ عِنْدَ جَرَيَانِ الْمَاءِ لَا عَلَى الِاتِّصَالِ كَمَا يُفْهِمُهُ التَّعْبِيرُ بِالْمُفَارَقَةِ، وَبِتَأَمُّلِ هَذَا الَّذِي قَرَّرْته يَتَّضِحُ أَنَّهُ لَا مُخَالَفَةَ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ مَا فَهِمَهُ الْإِسْنَوِيِّ وَالنَّشَائِيُّ؛ لِأَنَّ كُلًّا فَهِمَ حَالَةً حُكْمُهَا صَحِيحٌ وَلَك أَنْ تَسْلُكَ فِي وَجْهِ اخْتِلَافِ فَهْمِهَا مِنْ الْعِبَارَةِ طَرِيقًا آخَرَ، وَإِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُمَا إنَّمَا اطَّلَعَا عَلَى النُّسْخَةِ الْمَحْذُوفِ مِنْهَا الْوَاوُ لِكَوْنِهَا الْأَكْثَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَ التَّحْقِيقِ وَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا مَا دَامَ يَتَرَدَّدُ عَلَى الْعُضْوِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ فِيهِ حُكْمَانِ: هُمَا عَدَمُ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ، وَالِاسْتِعْمَالُ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ.
وَقَوْلُهُ: (وَبَدَنُ جُنُبٍ كَعُضْوِ مُحْدِثٍ) يَحْتَمِلُ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِيهِ فِي كُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ، وَأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي لَكِنَّ قَوْلَهُ " وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ إلَى بَاقِي بَدَنِهِ " صَرِيحٌ فِي أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَجْهَ الْمَحْكِيَّ مُقَابِلٌ لَهُ فَقَطْ، وَالتَّشْبِيهُ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُحْتَمَلُ الْوُجُودِ وَالِانْتِفَاءِ إذْ لَا قَرِينَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا فَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ عَدَمَ الِاسْتِعْمَالِ فَهِمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ إنَّمَا هُوَ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَهُوَ فَهْمٌ بَعِيدٌ لِأَنَّ قَرِينَةَ قَوْلِهِ: وَقِيلَ لَا يَضُرُّ انْفِصَالُهُ تَبْعُدُ مِنْ ذَلِكَ وَمَنْ نَقَلَ عَنْهُ الِاسْتِعْمَالَ

الصفحة 14