كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

فَهِمَ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي الْحُكْمِ الثَّانِي بِقَرِينَةِ حِكَايَةِ الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ وَهُوَ فَهْمٌ قَرِيبٌ لِقِيَامِ الْقَرِينَةِ عَلَيْهِ، وَمِنْ ثَمَّ سَاغَ لِشَيْخِنَا أَنْ يَحْكُمَ عَلَى الْفَهْمِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ وَهْمٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ آخِرَ الْعِبَارَةِ أَعْنِي حِكَايَةَ الْوَجْهِ السَّابِقِ يَرُدُّهُ. نَعَمْ شَيْخُنَا لَمْ يُوهِمْهُ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ وَلِمَا سَنَذْكُرُهُ بَلْ مِنْ حَيْثُ فَهْمُ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَارَةِ وَنَقْلُهُ عَنْهَا وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا لِلشَّيْخِ إنْ كَانَتْ النُّسْخَةُ الَّتِي رَآهَا النَّشَائِيُّ بِحَذْفِ الْوَاوِ كَمَا تَقَرَّرَ.
أَمَّا إذَا كَانَتْ الَّتِي رَآهَا بِإِثْبَاتِهَا فَمَا فَهِمَهُ مِنْ التَّشْبِيهِ فِي الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَقَطْ هُوَ صَرِيحُ الْعِبَارَةِ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ وَلَا إيهَامَ وَقَعَ مِنْهُ هَذَا، وَالْأَوْجَهُ فِي الْعِبَارَةِ الْمَحْذُوفِ مِنْهَا الْوَاوُ أَنْ يَجْعَلَ التَّشْبِيهَ فِيهَا رَاجِعًا لِكُلٍّ مِنْ الْحُكْمَيْنِ وَقَوْلُ السَّائِلِ - نَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ - اعْتِرَاضًا عَلَى مَا فَهِمَهُ شَيْخُنَا مِنْ الْعِبَارَةِ وَلَنَا أَنْ نَقُولَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ أَيْ فَارَقَ الْبَدَنَ جَمِيعَهُ وَانْفَصَلَ عَنْهُ إلَى خَارِجٍ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُفَارَقَةَ إلَى بَعْضِهِ. .. إلَخْ يُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّ قَوْلَ التَّحْقِيقِ: (فَإِنْ فَارَقَهُ صَارَ. وَيُقَالُ: لَا مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ) صَرِيحٌ فِي أَنَّ مُرَادَهُ بِالْمُفَارَقَةِ مَا يَشْمَلُ الْمُفَارَقَةَ مِنْ أَحَدِ الْيَدَيْنِ إلَى الْأُخْرَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَيُقَالُ لَا مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ) وَمَا يَشْمَلُ الْمُفَارَقَةَ بِالْكُلِّيَّةِ فَاتَّضَحَ مَا فَهِمَهُ شَيْخُنَا كَالْإِسْنَوِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعِبَارَةِ، وَانْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ بِمَا ذُكِرَ وَاعْتِمَادُ هَؤُلَاءِ لِلِاسْتِعْمَالِ فِي مَسْأَلَةِ الْمُفَارَقَةِ الَّذِي هُوَ صَرِيحُ كَلَامِ التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَرَّرَ لَا يَرُدُّهُ تَعْلِيلُهُمْ الْوَجْهَ الضَّعِيفَ خِلَافًا لِمَا فِي السُّؤَالِ لِأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِالِاسْتِعْمَالِ. عِنْدَ انْفِصَالِ الْمَاءِ مِنْ إحْدَى الْيَدَيْنِ إلَى الْأُخْرَى مَعَ كَوْنِهِمْ جَعَلُوهُمَا كَعُضْوٍ وَاحِدٍ فِي عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتِيبِ وَنَحْوِهِ فَعَلِمْنَا أَنَّ تَعْلِيلَ الْوَجْهِ الضَّعِيفِ بِمَا ذُكِرَ لَا يُنْتِجُ لِلسَّائِلِ مَا ذَكَرَ.
وَكَوْنُ الضَّعِيفِ لَا يُعَلَّلُ بِمَا يُوَافِقُهُ الصَّحِيحُ عَلَيْهِ كَثِيرٌ لَا أَكْثَرِيٌّ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ كُلِّيًّا، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ (وَالصَّوَابُ. .. إلَخْ) لَيْسَ فِيهِ رَدٌّ لِمَا مَرَّ مِنْ اعْتِمَادِ الِاسْتِعْمَالِ بَلْ قَوْلُهُ وَإِنَّمَا عَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ لِلضَّرُورَةِ مُؤَيِّدٌ لِلِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّ عُضْوَ الْمُحْدِثِ يُضْطَرُّ فِيهِ لِانْتِقَالِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِهِ لِمَزِيدِ الْقُرْبِ بَيْنَ الْمَحَلَّيْنِ، وَبَدَنُ الْجُنُبِ لَا يُضْطَرُّ فِي جَمِيعِهِ إلَى ذَلِكَ بَلْ إنَّمَا يُضْطَرُّ إلَى ذَلِكَ فِيمَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ فَقَطْ كَمَا يَأْتِي، وَقَوْلُ الْمَجْمُوعِ (كَنَقْلِ الْمَاءِ مِنْ بَعْضِ الْعُضْوِ إلَى بَعْضٍ) يَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُهُ بِمَا ذَكَرَهُ شَيْخُنَا حَتَّى يُوَافِقَ مَا ذَكَرَهُ عَنْ الرَّافِعِيِّ وَمَا سَنَذْكُرُهُ وَأَيْضًا فَإِبْقَاءُ كَلَامِهِ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ انْفَصَلَ الْمَاءُ مِنْ كَفِّ الْمُحْدِثِ ثُمَّ عَادَ إلَى مَرْفِقِهِ لَا يَضُرُّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ كَمَا سَنَذْكُرُهُ إذْ الْفَرْقُ بَيْنَ عُضْوِ الْمُحْدِثِ وَبَدَنِ الْجُنُبِ وَاضِحٌ كَمَا أَشَرْت إلَيْهِ فِيمَا مَرَّ.
وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ فِي عُضْوِ الْمُحْدِثِ فَلَا يُقَاسُ بِهِ بَدَنُ الْجُنُبِ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا مَرَّ وَلِمَا يَأْتِي وَكَلَامُ الْمَجْمُوعِ الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ الَّذِي فِي الْوُضُوءِ، وَمَا بَعْدَهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّفْصِيلِ الْآتِي فَلَا شَاهِدَ فِيهِ إذَا تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْجُمَلُ وَعُلِمَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالسُّؤَالِ فَلَا بَأْسَ بِالْإِشَارَةِ إلَى خُلَاصَةِ حُكْمِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي بَدَنَ الْجُنُبِ، وَإِنْ كُنْت أَشَرْت إلَى مَا يُفِيدُهُ فِيمَا مَرَّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّوَوِيَّ نَقَلَ فِيهَا الْخِلَافَ فِي الرَّوْضَةِ وَالْمَجْمُوعِ كَمَا ذُكِرَ فِي السُّؤَالِ.
وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي الْكِتَابَيْنِ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا لَكِنَّهُ رَجَّحَ فِي التَّحْقِيقِ كَمَا تَقَدَّمَ مَبْسُوطًا الِاسْتِعْمَالَ عِنْدَ الْمُفَارَقَةِ وَعَدَمَهُ عِنْدَ التَّرَدُّدِ عَلَى عُضْوِ الْمُحْدِثِ وَبَدَنِ الْجُنُبِ بِلَا مُفَارَقَةٍ وَالْحُكْمُ بِعَدَمِ الِاسْتِعْمَالِ عِنْدَ الْجَرْيِ عَلَى الِاتِّصَالِ الْمَحْسُوسِ لَا خِلَافَ فِيهِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا يَأْتِي، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ النَّقِيبِ فِي مُخْتَصَرِ الْكِفَايَةِ وَأَمَّا عِنْدَ الِانْفِصَالِ فَتَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْبَدَنِ وَيَخْرِقُ الْهَوَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَيْهِ كَأَنْ يَنْفَصِلَ مِنْ رَأْسِهِ وَيَفْقَأَ طُولًا عَلَى فَخِذِهِ، وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الْخِلَافِ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمَلًا لَكِنْ يُسْتَثْنَى مِنْهُ كَمَا جَزَمَ بِهِ الرَّافِعِيُّ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ وَتَبِعَهُ مَا يَغْلِبُ فِيهِ التَّقَاذُفُ فَلَا يَصِيرُ الْمَاءُ مُسْتَعْمَلًا بِالِانْفِصَالِ إلَيْهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا صَحَّحَهُ فِي الْكِفَايَةِ مِنْ مَنْعِ الِاسْتِعْمَالِ وَكَذَا مَا نَقَلَهُ النَّشَائِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ التَّحْقِيقِ كَمَا مَرَّ تَارَةً يَكُونُ بِأَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ إلَى بَعْضٍ بِتَرَدُّدٍ وَجَرَيَانٍ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ فِي الْهَوَاءِ وَلَيْسَ فِيهِ اتِّصَالٌ حِسِّيٌّ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا قَطْعًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَحَاوَلَ فِي الْكِفَايَةِ مَجِيءَ وَجْهٍ فِيهِ وَلَا وَجْهَ لَهُ كَمَا قَالَهُ الزَّرْكَشِيُّ وَقَالَ كَشَيْخِهِ الْأَذْرَعِيِّ فِي قَوْلِ الرَّوْضَةِ وَقَالَ الْإِمَامُ: إنْ نَقَلَهُ قَصْدًا وَإِلَّا فَلَا.
هَذَا مَا قَالَهُ الْإِمَامُ فِي التَّقَاذُفِ الَّذِي لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا وَأَمَّا الَّذِي لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَقَالَ: إنَّهُ عَفْوٌ قَطْعًا لِأَنَّ الْبَدَنَ لَيْسَ سَطْحًا بَسِيطًا وَمِمَّا يُزِيحُ الْإِشْكَالَ جَمِيعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عِبَارَةُ الْغَزَالِيِّ فِي بَسِيطِهِ وَهِيَ (لَوْ انْفَصَلَ مِنْ عُضْوٍ وَتَقَاطَرَ عَلَى عُضْوٍ آخَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ جَمِيعَ.

الصفحة 15