كتاب الفتاوى الفقهية الكبرى (اسم الجزء: 1)

حَيْثُ السُّكْنَى وَالْإِقَامَةُ وَالْعِبْرَةُ هُنَا إنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى وَظَاهِرُ قَوْلِ السَّائِلِ نَفَعَ اللَّهُ بِهِ: وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَا يَجِيئُونَ إلَيْهَا إلَخْ.
أَنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنْ سُكْنَاهَا بِالْكُلِّيَّةِ وَلَكِنَّهُمْ يَتَرَدَّدُونَ إلَيْهَا لِحَاجَةٍ أَوْ جُمُعَةٍ أَوْ عِيدٍ فَإِنْ كَانَ حَالُهُمْ كَذَلِكَ فَهُمْ غَيْرُ مُتَوَطِّنِينَ بِذَلِكَ الْبَلَدِ قَطْعًا لِإِعْرَاضِهِمْ عَنْ سُكْنَاهُ بِنِيَّتِهِمْ عَدَمَ الْعَوْدِ إلَيْهِ إلَّا لِحَاجَةٍ وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَإِنَّمَا التَّرَدُّدُ فِيمَنْ يُفَارِقُونَ الْبَلَدَ فِي بَعْضِ فُصُولِ السَّنَةِ لِرَبِيعٍ أَوْ صَيْفٍ مَعَ عَزْمِهِمْ عَلَى الْعَوْدِ عِنْدَ انْقِضَاءِ غَرَضِهِمْ وَحُكْمُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْجَلَالُ أَنَّهُمْ إنْ بَعُدُوا عَنْهَا بِحَيْثُ يُسَمَّى سَفَرًا وَانْقَطَعَتْ نِسْبَتُهُمْ إلَيْهَا فِي السُّكْنَى فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ صَارُوا غَيْرَ مُتَوَطِّنِينَ بِهَا فَلَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ وَإِلَّا فَهُمْ بَاقُونَ عَلَى تَوَطُّنِهِمْ ثُمَّ هَذَا كُلُّهُ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّوَطُّنِ وَعَدَمِهِ حَتَّى يُحْسَبُوا مِنْ الْأَرْبَعِينَ أَوْ لَا وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلُّزُومِ فَإِنْ سَمِعُوا النِّدَاءَ بِشُرُوطِهِ لَزِمَهُمْ الْحُضُورُ لِمَحَلِّهِ وَإِلَّا فَلَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.

(وَسُئِلَ) - نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - هَلْ يَلْزَمُ الْمَحْبُوسِينَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي الْحَبْسِ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: الْقِيَاسُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ وَشُرُوطُ صِحَّتِهَا وَلَمْ يُخْشَ مِنْ إقَامَتِهَا فِي الْحَبْسِ فِتْنَةٌ لَكِنْ أَفْتَى غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُمْ مُطْلَقًا وَقَدْ بَالَغَ السُّبْكِيّ فَقَالَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ إقَامَتُهَا وَإِنْ جَازَ تَعَدُّدُهَا وَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَإِنْ أَطَالَ الْكَلَامَ فِيهِ فِي فَتَاوِيهِ وَالِاسْتِدْلَالِ لِعَدَمِ الْوُجُوبِ بِأَنَّ الْحُبُوسَ لَمْ تَزَلْ مَشْحُونَةً مِنْ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ أَقَامَهَا فِي الْحَبْسِ يُمْكِنُ الْخَدْشُ فِيهِ بِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا إنْ ثَبَتَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي حَبْسٍ أَرْبَعُونَ شَافِعِيًّا مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِفِعْلِهِمْ وَلَمْ يُقِيمُوهَا مَعَ تَوَفُّرِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الشُّرُوطِ وَعَدَمِ خَوْفِ الْفِتْنَةِ فَمَنْ أَثْبَتَ هَذَا اتَّضَحَ لَهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ وَمَنْ لَمْ يُثْبِتْهُ يَلْزَمْهُ أَنْ يَقُولَ بِالْوُجُوبِ. فَإِنَّهُ الَّذِي يُصَرِّحُ بِهِ كَلَامُ أَصْحَابِنَا.
وَلَقَدْ كَانَ الْبُوَيْطِيُّ وَهُوَ فِي قُيُودِهِ فِي الْحَبْسِ يَغْتَسِلُ وَيَلْبَسُ نَظِيفَ ثِيَابِهِ وَيَأْتِي إلَى بَابِ السِّجْنِ فَيُشَاوِرُ السَّجَّانَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَيَمْنَعُهُ فَيَرْجِعُ وَيَقُولُ الْآنَ سَقَطَتْ الْجُمُعَةُ عَنِّي فَتَأَمَّلْ مُحَافَظَةَ هَذَا الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ أَجَلُّ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَلِذَا اسْتَخْلَفَهُ فِي حَلَقَتِهِ وَأَخْبَرَهُ بِهَذِهِ الْمِحْنَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لَهُ بِقَوْلِهِ لَهُ: سَتَمُوتُ فِي قُيُودِك عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ تَجِدُهُ كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ إقَامَتُهَا فِي الْحَبْسِ لَفَعَلَهَا فِيهِ فَإِنْ قُلْت إنْ أَقَامُوهَا قَبْلَ جُمُعَةِ الْبَلَدِ أَفْسَدُوهَا عَلَى أَهْلِهَا أَوْ بَعْدَهَا لَمْ تَنْعَقِدْ لَهُمْ. قُلْت مَمْنُوعٌ فِيهِمَا بَلْ عُذْرُ الْحَبْسِ لَا يَبْعُدُ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّعَدُّدُ فَيَفْعَلُونَهَا مَتَى شَاءُوا قَبْلُ أَوْ بَعْدُ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ حِينَئِذٍ.

(وَسُئِلَ) - أَعَادَ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِهِ - عَنْ بَيْتٍ وَاحِدٍ فِيهِ أَرْبَعُونَ مُتَوَطِّنُونَ بِصِفَةِ مَنْ تَلْزَمُهُمْ الْجُمُعَةُ فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ إقَامَتُهَا أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَفْتَى جَمْعٌ يَمَنِيُّونَ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِمْ: الشَّرْطُ أَنْ تُقَامَ بَيْنَ الْأَبْنِيَةِ وَلَا أَبْنِيَةَ هُنَا وَقِيَاسًا عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ، وَأَفْتَى آخَرُونَ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِمْ وَهَذَا هُوَ الْأَوْجَهُ وَلَا دَلِيلَ لِلْأَوَّلَيْنِ فِي تَعْبِيرِ الْأَصْحَابِ بِالْأَبْنِيَةِ لِأَنَّهُ لِلْغَالِبِ وَلَا فِي الْقِيَاسِ عَلَى أَهْلِ الْخِيَامِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ أَرْبَابِهَا النُّجْعَةَ وَعَدَمَ تَوَطُّنِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ أَهْلِ الْبِنَاءِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِهِمْ تَوَطُّنَ بِنَائِهِمْ وَعَدَمَ النُّقْلَةِ مِنْهُ وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ هَذَيْنِ فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْبِنَاءِ الْوَاحِدِ أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُوبِ مِنْ أَهْلِ الْخِيَامِ غَلَطٌ وَاضِحٌ إذْ لَا مُسَاوَاةَ بِوَجْهٍ فَضْلًا عَنْ الْأَوْلَوِيَّةِ.

(وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ عَنْ قَوْلِهِمْ تَصِحُّ الْجُمُعَةُ خَلْفَ الْمُتَنَفِّلِ وَالْمُحْدِثِ هَلْ يُشْتَرَطُ سَمَاعُهُمَا لِلْخُطْبَةِ أَوْ لَا؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ: أَفْتَى بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْأَوَّلِ سَمَاعُهَا بِالنِّسْبَةِ إلَى صِحَّةِ الْجُمُعَةِ لَهُمْ خَلْفَهُ وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ خِلَافُهُ وَيُفَارِقُ الْخَلِيفَةُ إذَا شَرَطْنَا سَمَاعَهُ بِأَنَّهُ يَبْنِي صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ. وَهُوَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ سَمَاعِهِ صَحَّتْ خَلْفَهُمَا إذَا زَادَا عَلَى الْأَرْبَعِينَ لِوُجُودِ صُورَةِ الْجَمَاعَةِ لَا حَقِيقَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ لِاشْتِرَاطِ السَّمَاعِ وَجْهٌ.

- (وَسُئِلَ) نَفَعَ اللَّهُ بِهِ - عَمَّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ «مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا» مَا مَعْنَاهُ؟
(فَأَجَابَ) بِقَوْلِهِ:

الصفحة 259